في السنوات الأخيرة من ستينات القرن العشرين، عندما كنا في مرحلة الشباب اليافع، شباباً متحمساً ومندفعاً وطموحاً، متعطشاً للخبرة والمعرفة واقتحام المجهول، وقعت بين يدي مجلة السينما والمسرح المصرية بحجمها الكبير ومواضيعها الشيقة والجادة بقلم نقاد السينما
في السنوات الأخيرة من ستينات القرن العشرين، عندما كنا في مرحلة الشباب اليافع، شباباً متحمساً ومندفعاً وطموحاً، متعطشاً للخبرة والمعرفة واقتحام المجهول، وقعت بين يدي مجلة السينما والمسرح المصرية بحجمها الكبير ومواضيعها الشيقة والجادة بقلم نقاد السينما المصريين الشباب آنذاك من أمثال: سمير فريد وصبحي شفيق ويوسف شريف رزق الله وسامي السلاموني وغيرهم كثيرون، اقتحمني مصطلح سينمائي جديدة أو بالأحرى مفردة لغوية جديدة على سمعي "السينماتيك" والتي تعني أرشيف السينما أو مكتبة السينما في باريس، وهي المكان السحري الذي يحوي بين جدرانه كل تاريخ السينما منذ نشأتها إلى يوم الناس هذا، والتي أسسها وأدارها الراحل هنري لانغلوا.
وكانت مجلة السينما والمسرح المصرية تتابع التطورات السينمائية على الساحة الفرنسية وتنقل لنا أخبار قضية هنري لانغلوا وصراعه مع وزير الثقافة الفرنسي الكاتب والروائي الشهير أندريه مالرو، الذي قرر إعفاء لانغلوا من رئاسة السينماتيك على نحو تعسفي ورفض هذا الأخير لهذا القرار وتضامن الوسط السينما الفرنسي والأوروبي والعالمي برمته مع لانغلوا مما أرغم وزير الثقافة على سحب قراره وإبقاء لانغلوا في منصبه. كان أستاذي وأبي الروحي جان ميتري صديقاً مقرباً لهنري لانغلوا آنذاك، عندما وطأت قدماي لأول مرة أرض باريس الأنيقة وعاصمة السينما العالمية بلا منازع في بداية سبعينات القرن العشرين. كنت أحفظ عن ظهر قلب تاريخ السينما العالمية كما وصل إلينا عبر ترجمات بعض الكتب عن هذا الموضوع ككتاب جورج سادول وغيره، لكن معرفتنا ظلت نظرية فلم أشاهد أياً من تحف السينما العالمية الشهيرة التي تحدث عنها المؤرخون، وكان جان ميتري يقول لي:" يا بني قبل أن تبدأ بالدراسة عليك بمشاهدة جواهر السينما العالمية، شارلي شابلن وأرسون ويلز ومونرو وفريتز لانغ وجان رينوار ومارسيل كارنيه وبالطبع فيلليني وأنطونيوني وبازوليني وفيسكونتي ودي سيكا وبالطبع روائع الموجة الجديدة الفرنسية. كنت جالساً في بيته حين رنّ جرس الهاتف وردّ بصوته الرقيق والتفت إلي وقال وهو على الخط، هل لديك ارتباط غداً، فأجبته بصمت بهزة رأس بأني غير مرتبط وجاهز في أيّ وقت. وعند انتهاء المكالمة قال لي المعلم الكبير:" غداً ستأتي معي لأعرفك على هنري لانغلوا في السينماتيك الفرنسية" مازلت أتذكر ذهولي وعدم تصديقي لنفسي ولما سمعته قبل ثوانٍ هل سيتحقق الحلم؟. هل من المعقول أن التقي وجهاً لوجه بهذا العملاق الذي قرأت عنه الكثير والذي قرر مخرجو العالم الكبار مقاطعة السينماتيك وعدم إرسالهم نسخاً من أفلامهم، إذا أستبدلت الحكومة الفرنسية لانغلوا بشخص آخر. وفي اليوم التالي كنت برفقة شيخ المنظرين السينمائيين في سيارته القديمة باتجاه التروكاديرو، حيث كان هناك مكتب هنري لانغلوا في السينماتيك الفرنسية في باريس. لم اتجاوز العشرين من عمري بعد عندما قال ميتري لهنري لانغلوا :" هذا الشاب بمثابة إبني وهو يذكرني بشبابي، وأريدك أن تساعده فهو يعرف كل شيء عن السينما وتأريخها لكنه لم يشاهد بعد أياً من روائعها الأساسية، مسح لانغلوا على رأسي بيده الحنونة بعد أن صافحني وقال لي: عليك أن تسهر في الليل بعد انتهاء العروض التجارية للسينماتيك التي تنظم في النهار وتعرض التحف السينمائية كالمدرعة بوتومكين لآيزنشتين والتعصب ومولد أمة لغريفيث الخ ، وسلمني مفتاح السينماتيك ومفتاح غرفة المونتاج وفيها جهاز الموفيولا وهو الوسيلة الوحيدة أمامي لمشاهدة كل ما أريده من أفلام على شاشة الموفيولا الصغيرة أي جهاز المونتاج والتي تحل محلة شاشة العرض السينمائي الفضية الكبيرة. أمضيت شهوراً عديدة وأنا أتلذذ بمشاهدة كل أفلام شابلن وكل أفلام ويلز وكل أفلام هيتشكوك وروائع السينما الصامتة وكل ما تمنيت مشاهدته وكنت محروماً منه، بمعدل ثلاثة أفلام في كل ليلة ، كانت أجمل سنوات حياتي وأكثرها ثراء وسعادة ومعرفة بهذا الفن الذي عشقته منذ نعومة أظفاري. كما ألتقيت هناك بمشاهير الإخراج السينمائي العالمي عندما تنظم لهم أسابيع تكريماً لإبداعهم السينمائي التقيت بإلياكازان وأرسون ويلز وفيلليني وبازوليني وآلا روب غرييه وآلان رينيه ومارغريت دوراس فيليب غاريل وجان لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول وإريك رومير وغيرهم، والذين تعرفت على أغلبهم قبل ذلك بحكم دراستي وكان بعضهم من أساتذتي كإريك رومير وغودار وجون لوي كومولي وجاك ريفيت إلى جانب ميشيل ماري وجاك أومون وسيرج داني وباسكال بونيتزر وآلان بيرغالا ودومينيك نوغيز وبالطبع أولهم وأهمهم جون ميتري. تذكرت أنني كنت قد أرسلت من العراق باللغة الإنكليزية لجان ميتري تحليلاً لفيلم آلان رينيه وسيناريو مارغريت دوراس "هيروشيما حبيبتي" وكذلك تحليل للفيلم التجريبي الذي أخرجه جان ميتري وهو بعنوان" باسفيك 231" وهو فيلم لا يعرف بوجوده إلى حفنة صغيرة من المتخصصين، فقمت بوضعه على جهاز الموفيولا وشاهدته لقطة بعد لقطة ونقلته على الورق، أي قمت بكتابة ديكوباج الفيلم بعد إخراجه ومونتاجه وليس قبل تنفيذ كما هي العادة، كي أقدمه هدية لأستاذي الكبير. فلما سلمته الملف الورقي للفيلم مع الدراسة التحليلية السابقة التي ترجمتها إلى الفرنسية هذه المرة وقمت بتعديلها وإضافة الكثير من العناصر التحليلية على ضوء ما تعلمته في باريس وتطوير ملكتي النقدية في مجال تحليل الأفلام ولغة السينما وجمالياتها، لم يكتم ميتري إعجابه بهذه الهدية المتواضعة، لأن ليس بمقدوري تقديم ما هو أفضل منها، قال لي، هل تحتاج لخدمة أخرى، فبادرته أنني أود أن أجري معه مقابلة مطولة عنه وعن إنجازه الفكري والنظري والجمالي فوافق على الفور. وحدّدنا جدول مواعيد للقاءات متعددة ومنتظمة لإجراء المقابلة الطويلة جداً والتي نُشر جزء كبير منها في مجلة سينماتوغراف الفرنسية وأخذ منها مقاطع الأستاذ والناقد الفرنسي الكبير دومينيك نوغيز لينشرها في كتابه "ثلاثون عاماً على السينما التجريبية في فرنسا" وهو بالمناسبة الأستاذ المشرف على أطروحتي الثانية للدكتوراه عن مارغريت دوراس بعنوان " البنى السردية في أفلام وروايات مارغريت دوراس"، بينما كان جان ميتري هو المشرف على أطروحتي الأولى بعنوان: "نحو لغة سينمائية جديدة على ضوء منهج السيميولوجيا الدلالية أو نظرية الإشارات والرموز".