هكذا يطلق المؤرخون ونقاد الفن في العالم هذه التسمية، على نوع التماثيل الحجرية الجميلة التي تشغل الكثير من قاعات المتاحف في أماكن عديدة، وخاصة متاحف الاتنوغرافيا (التي تتخصص بفنون بعض الشعوب القديمة)، وهذه التماثيل مختلفة الاحجام، لكنها ذات أشكال واحدة وتكوينات متشابهة تقريباً، حيث يظهر فيها شخص غامض، مستلقٍ على ظهره فوق أريكة مسطحة، ويرفع رأسه وكتفيه الى الأعلى، فيبدو بهيئة تشبه الجلوس والاستلقاء بذات الوقت، ويضع على رأسه مايشبه غطاءً أو خوذة حرب، بينما يداه تنثنيان على جانبيه لتمسكا بإناء استقر على البطن. قد يبدو التكون بسيطاً والموضوع عابراً وحتى المعالجة تشير الى الكثير من البدائية وعدم الدراية بمقومات النحت الذي نعرفه، إضافة الى شيء من الغموض يلف هذه التماثيل، لكن هذا كله ليس سيئاً، بل هو المطلوب بالفعل، وهو ما يكفي تماماً ليُشغِلَ خيال الفنانين ويحرك أصابعهم حتى بعد أن يبتعدوا خطوات عن هذه الاعمال. وقد تحدث المعجزة بعد أن يصلوا الى مشاغلهم، فتبقى عيونهم شاخصة نحو تلك الغرابة والغموض والسحر الذي يخرج من هذه التماثيل كما يخرج البخور من المعابد القديمة.
كنت قد رأيت واحداً من هذه التماثيل في متحف اللوفر وتفحصته بعناية وتـأملته بفضول كبير، كان الماضي يشع من الحجر، وبصمات الزمن واضحة للغاية، مع احساس بأن هناك شيئاً مقدساً يقف خلف ذلك التعبير وتلك الثقة التي يستند بها التمثال على قطعة الحجر المستطيلة، بينما القوة التعبيرية للعمل تتحرك مع حركة الرأس الذي يرتفع ويواجهني وأنا أنظر اليه، حتى يبدو وكأنه يوشك أن يخبرني شيئاً مهماً ينتظره بخشوع وتضرع. وهو بالفعل كذلك، وهذا هو الغرض الذي صنعت من أجله هذه التماثيل المعبرة التي كان ينحتها (الهنود الحمر) من سكان المايا والأزتيك وخاصة فيما يسمي الآن بدولة (بيرو) ويضعونها قرب المعابد لاستحضار البرق ومن ثم المطر، ومن هنا جاءت تسمية التماثيل (الأقدام المدوية) أو اقدام البرق، وهي بمثابة إله المطر عند المايا، حيث تُواجِهُ هذه التماثيل السماء بانتظار حصول المعجزة التي ستملأ الإناء الذي يحمله التمثال بالمطر والخير الذي يضمن حياة الهنود الى الأبد.
لم يدر في خلد (النحاتين) الذين صنعوا هذه التماثيل، بأنهم يقدمون لنا فناً ملهماً ومؤثراً، ولم يتوقعوا بالتأكيد بأننا بعد بضعة آلاف من السنين سنأخذ بيدها وندخلها المتاحف ونتأثر بها، بل ونجعل لها قيمة لا تقل عن قيمة المطر الذي كانت تعدهم به وتجلبه لكل سكان بيرو. نعم، لقد تغيرت نظرتنا للفنون البدائية او الأتنوغرافيا منذ مطلع القرن العشرين وبدأ الفنانون يبحثون عن مصادر إلهام جديدة تناسب الانفتاح الذي حصل في الفن بشكل عام، وكانت هذه التماثيل واحدةً من هذه المصادر المهمة والكبيرة بحيث تأثر بها عدد كبير من الفنانين، وفِي مقدمتهم النحات البريطاني الشهير هنري مور، الذي أعاد صياغتها بمهارة فريدة وألبسها ثياباً تناسب رؤيته وأسلوبه الفني، وقد أنتج عشرات المنحوتات الكبيرة المستلهمة من أقدام البرق، التي بدا وكأنه يستعيد طاقتها الروحية ويمنحها حياة جديدة تناسب وقتنا أو فننا الحاضر.
وقد وضحت التفاتات الفنانين نحو الاعمال البدائية في اكثر من مناسبة، وكانت استفادتهم منها في تطوير فنهم واعمالهم مهمة في تاريخ الفن، كما نشاهد ذلك في بعض منحوتات موديلياني ذات الرقاب الطويلة والوجوه الساهمة، وكذلك بيكاسو الذي أدخل الأقنعة الأفريقية في أعماله، ومنها أول لوحة تكعيبية رسمها وهي(نساء أفنيون)، وكذلك الفنان التعبيري كريشنر الذي أذهلته التماثيل القديمة التي تعود لغينيا الجديدة ووظف ملامحها في اعماله، ولا يُستَثنى الفنان غوغان من ذلك، هو الذي ذهب الى جزيرة تاهيتي لينهل من ملامح نسائها وعوالمها السحرية أعمالاً فتحت الطريق نحو المدرسة الرمزية في الرسم. وهذا هو ماحدث أيضاً مع الأقدام المدوية التي نحن بصددها، والتي غيَّرَت طريقها القديم لتخطوا خطوات جديدة نحو الحداثة.
الأقدام المُدَوِّية
[post-views]
نشر في: 21 يوليو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...