في عام 1972 يفوز مكتب "هشام منير ومشاركوه" في مسابقة معمارية لتصميم مقر لغرفة تجارة بغداد، التصميم الذي قدّر له أن ينفذ على أرض الواقع بالكامل عام 1976، مضيفاً بعمارته المتسمة على رهافة التفصيل والنسب المميزة، وحسن التوزيع الكتلوي في الموقع، نموذجاً
في عام 1972 يفوز مكتب "هشام منير ومشاركوه" في مسابقة معمارية لتصميم مقر لغرفة تجارة بغداد، التصميم الذي قدّر له أن ينفذ على أرض الواقع بالكامل عام 1976، مضيفاً بعمارته المتسمة على رهافة التفصيل والنسب المميزة، وحسن التوزيع الكتلوي في الموقع، نموذجاً لافتاً الى سجل عمارة بغداد الحداثية، ومضفياً، ايضاً، بعداً جماليا، مثيراً للانتباه، الى المكان.
معلوم أن المبنى يقع في أهم منطقة تجارية بالعاصمة، وهو شارع المستنصر (شارع النهر)، كما أنه يطل على نهر دجلة، ما يرفع من اهمية المكان، ويمنحه تفرداً موقعياً، استثمره المصمم (كما سوف نرى) لصالح التصميم وتميّز عمارته.
يشكل الموقع، عرصة ذات شكل بأبعاد هندسية منتظمة تقريباً. انها على شكل مستطيل ممتد، محصور ما بين شارع النهر من جهة الشرق ورصيف نهر دجلة من جهة الغرب؛ ويلاصق في كلا الجانبين الآخرين منه (الشمالي والجنوبي) كتل الابنية المجاورة. سعى المصمم لأن تكون لغة عمارة المبنى لافتة، بيد انه حرص على أن تبقى مفرداتها معتمدة على الإرث التصميمي للمكتب الشهير. لكنه هنا يأخذ في عين الاعتبار خصوصية الموقع المتفردة وطبيعة المجاورات وأهميتها، موظفاً كل ذلك في مصلحة التصميم المقترح. سعى المعمار وراء ان تكون متطلبات المنهاج التصميمي للمبنى، موزعة بعقلانية وبكفاءة عالية في احياز يتم استخدامها وظيفياً بسهولة، ويستدل عليها بوضوح تام. فطابق السرداب (أو بالأحرى "نصف السرداب"، لأن سقف الاخير رُفع قليلاً عن مستوى ارضية الموقع) خصص لموقف سيارات الموظفين وزوار المبنى. وقد استثمر المصمم بآهلية واضحة "تبعات" قراره بالرفع الجزئي، لأجل التأكيد المكاني والبصري على حضور وتأشير مكان مدخل المبنى الرئيس، موظفاً وجود السلم القصير، ذي الدرجات القليلة الواصل بين مستوى الارضية ومنسوب الطابق الأرضي، و"فسحته" Landing المقامة أمام المدخل مباشرة، زيادةً في الاستدلال عليه.
استثمر المصمم فضاءات الطابق الأرضي لأجل توزيع مجمل فعاليات المنهاج التصميمي، ذات الطابع العام، المنطوية على حراك نشط. ثمّة قاعة اجتماعات واسعة وقاعات ترفيهية كبرى وصغرى، بالاضافة الى المطعم والكازينو، كلها تتواجد في حيز الطابق الارضي، فضلاً عن وجود ممرات الحركة الاساسية، التى تخترق المبنى كله من الشارع الى جهة النهر. وبغية الحصول على اضاءة طبيعية لازمة، تنير فضاءات هذا الطابق، فإن المصمم لجأ الى توفيرها بأساليب متنوعة، اولهما بصيغة الاضاءة السقفية ذات المقطع المميز المتدرج، والاسلوب الآخر، عن طريق عمل حدائق وسطية مكشوفة للأعلى، تخترق بأشكالها الهندسية المنتظمة ومواقعها المدروسة، الابعاد العميقة لاحياز هذا الطابق. بالاضافة طبعاً الى فتح نوافذ عريضة في واجهتي المبنى، اللتين تطلان على الشارع وعلى النهر. وقد تم تخصيص فضاءات الطابق النصفي Mezzanine الذي عمله فوق الطابق الارضي وبنفس الابعاد الهندسية، كتكملة الى احياز الاستخدامات العامة واضافة لها. اما مكاتب التجار والموظفون، فإنه جمعها كلها في برج متعدد الطوابق، (بارتفاع ستة طوابق)، كما سعى الى رفع كتلة البرج هذا عن مستوى الطابقين السفليين، بطابق خاص ذي معالجة مختلفة، خصصه الى مجمل خدمات المبنى.
وبهذا التوزيع الكتلوي، الذي يبرز الاحياز المتنوعة، ويشي بنوعية وظيفتها، والذي يظهره تركيب Combination مميز، قوامه كتلة افقية واطئة ممتدة، و"صفيحة" شاقولية تبرز من سطح تلك الكتلة، وتكون، عادةً، بابعاد محددة، هي ابعاد "رفوف" الطوابق المعلقة؛ فإن المعمار يستدعي بهذا القرار، حلاً تكوينياً، امسى "لازمة تصميمية"، يتكرر توظيفها بـ "تناص"Intertextuality مبدع من قبل مصممين عديدين في كثير من تكوينات المباني العالية في مختلف المدن العالمية، منذ ان "ابتدعها" المعمار "غوردن بونشافت" (1909 -1990) G. Bunshaft ، في مبناه "ليفر هاوس" Lever House النيويوركي، عام 1952، عمارته التى استقت مفرداتها التكوينية من اعمال "ميس فان ديرّ رو" العشرينية! وقد شكل ذلك التكامل والاندماج بين الكتلة الافقية الممتدة، والكتلة العمودية والتوازن بينهما، صيغة لهيئة "فورماتية" حداثية، انطوت على صفاء تكويني، اغوى كثر من المعماريين لتوظيفها في حلولهم التصميمية عبر تأويلات رصينة، مثيرة للانتباه.
في عمارة "غرفة تجارة بغداد"، تحضر تلك "التوليفة" التكوينية بنسب وتناسب جد دقيق، وبمقياس متقن يراعي خصوصية المكان وبيئته المبنية. ثمة وضوح، يدنو من "نصاعة" تامة، مُصطفى، بعناية، لكتل المبنى، التى بدت "فورماتها" جلية، على خلفية تنويعات و"ضجيج" مفردات عمارة البيئية المجاورة. وهذا كله منح المبنى حضوراً مكانياً لافتاً، تعزز جراء جمالية النسب المختارة لكتله، وصفاء عناصر التصميم المشغولة برهافة متقنة، سواء كان ذلك في اشكال فتحات نوافذ واجهات المبنى الجانبية أم في واجهاتها الطولية. وقد اعطت السطوح الآجرية الواسعة المصمتة لواجهات البرج العالي، مع فتحات النوافذ "الشريطية" فيها، حضورا كفوءاً لمفهوم التضاد، الذي اثرى بوجوده المميز الحل التكويني المشغول. كما أن هذا التكامل، الذي عمل عليه المعمار، بآهلية كبيرة، والذي يظهر بقوة فيما بين العناصر الخرسانية، وسطوح الطابوق الواسعة، قد ساهم كثيرا في انتماء المبنى الى ثقافة المكان، عبر اظهار "الآجر" بمثل هذا الاسلوب الحاذق، واللافت للانتباه.
ولهذا، ولكل هذه الاسباب، تبقى عمارة مبنى "غرفة تجارة بغداد"، احدى روائع عمارة السبعينات البغدادية. انها بشكلها الواضح، وصفاء مفرداتها التصميمية، امست جزءاً من "ذاكرة" بغداد المبنية، وذاكرة النهر الذي يمر بجانبها، ذلك النهر المولع البغداديون به، والمولع به ايضاً، معمار المبنى، عندما كتب "هشام منير"، ذات يوم عنه، مايلي"... إني اشعر بالحاجة إلى إبراز وإظهار أحد العناصر الهامة في المدينة والذي يشكل قوة دافعة ومحفّزة ليأخذ الأولوية، وليكون أولوية في اعتبارات التخطيط الحضري والمدينة ككل. إنه نهر دجلة وهو قلب المدينة، إن بغداد دون هذا النهر الذي يكمّلها هي مدينة بلا قلب. إن دجلة الخير هو المَعلم التاريخي العظيم الذي يحيي ذكرى خلود ما بين النهرين. إن دجلة الخير جزء أساس من بغداد في جميع مراحل تاريخها، في فترات ازدهارها عندما كانت المركز الثقافي في العالم ، وفي فترات الأحداث المأساوية.... وهو هبة مقدسة للعراق، ووديعة على العراقيين أن يجلوها ويحترموها ويفتخروا بها) <جريدة المدى، 28/تموز 2012>. واخال أن حضور "التجانس" الحاصل ما بين "لون" مياه النهر الجارية، و"الالوان" المنتقاة، باهتمام زائد، لطبيعة المواد الانشائية المستخدمة في بُنية المبنى، لم تكن وليدة "صدفة"، وانما كانت نتيجة حرص واضح من قبل المصمم في مراعاة خصوصية الموقع وطبيعة مجاوراته. وحتى الاستخدامات المؤثرة للسطوخ "الآجرية" الواسعة في جانبي واجهتي البرج العالي، وما تشي به من دلالة لونية، كانت من ضمن القرارات التصميمية التى تدخل في اهتمام المصمم ومراعاته لطبيعة المكان ، والتأكيد على جمالياته اللونية.
لكن ماذا سيحدث، لو اننا رغبنا بإضافة "شيء" ما الى عمارة المبنى؟ شيء، بمقدوره أن يرفع من قيمة تلك العمارة، ويثريها جمالياً؟! والسؤال هنا: سؤالان. الاول، هل نتملك <الحق المعنوي> في "تغيير" عمارة مصممة من قبل اخرين، وخصوصاً اذا كان "الآخر"، احد رواد العمارة الحداثية في البلاد؟ والسؤال الثاني، ماهي عواقب ذلك "التغيير"، وما هي الضمانة التى تلزم بأن عملية التغيير تلك، ستكون في "صالح" عمارة المبنى، وليس ضدها؟! ونضيف، ايضاً، الى كل ذلك، كيف سيتم التعاطي مع "فعل" التغيير في حالة اذا كانت النتيجة... محبطة؟ هذه التساؤلات يفرضها واقع اليوم، عندما يرى المرء (على سبيل المثال)، الآن <مبنى غرفة تجارة بغداد>، وقد تم اجراء "تغيير تام" (هل اقول اتلاف تام؟!) لتلك العمارة الانيقة التى كنا نعتيرها احد نماذج عمارة بغداد الحداثية الراقية. (لقد تسنى لي، وانطلاقاً من اهتماماتي بشواهد العمارة العراقية، أن اصور المبنى في الحالتين: قبل "التغيير" وبعده، والتى انشرها مع نص هذه الحلقة، ليطلع القارئ بصرياً وليقارن مدى التعسف والاجحاف الذي اصاب عمارة المبنى بعد اعمال "التغيير" الاخيرة!).
يتعين التذكير، بحقيقة واضحة، يفرضها مستوى الرقي الحضري، ومتطلبات الثقافة الرفيعة، الداعية الى ضرورة الحفاظ على هيئات الابنية القديمة والتاريخية، وعدم جواز احداث تغييرات في بنيتها التركيبية. هذه حقيقة يقرّها الجميع، ومن باب اولى أن تشمل أيضاً الابنية الحديثة ذات القيمة المعنوية والمهنية المهمة. فالحفاظ على الذاكرة الحضرية بصرياً ومادياً، يدخل ضمن اسباب ومقومات التحضر، ويرسخ الاحساس بـ"مدينية" المدن. هذا لا يعني البتة، بأن جميع الابنية الحداثية تمتلك "قدسيتها" ولا يمكن التقرب منها أو عمل اضافات في بنيتها. ما اريد قوله، وما أريد أن اذكرّ به، هو ما معمول به عالمياً، بضرورة اخذ رأي المكتب المصمم في عمل تلك الاجراءات اذا كانت ثمة حاجة لها؛ وأن تناط اعمال التغيير والاضافات الى لجنة كفوءة، يحضر فيها ممثل عن المكتب الاستشاري، تقدر قيمة المبنى وتحدد نوعية التغيير وجدواه. فالمبنى، وأن انتقلت ملكيته الى رب العمل، يبقى المعمار المصمم يحتفظ بحقه الشرعي والقانوني والمهني تجاهه؛ ذلك لأن "اجور" العمل الاستشاري المتعاقد عليها بين المكتب ورب العمل، لا تمنح الاخير حق الملكية المطلقة والتصرف بحرية تامة بالمبنى المصمم؛ بمعزل عن رأي المعمار واستشارته. (واذا علمنا، بأن غالبية المعماريين العراقيين لم يتسلموا استحقاقاتهم المالية، كاملةً، من الدولة جراء القيام بعملهم الاستشاري، وإن الاخيرة مازالت مدينة لبعضهم لحين الوقت الحاضر، فإن فرضية "الملكية المطلقة" تبدو ليس فقط غير مقنعة وانما غير...شرعية أيضاً!).
اعرف أن الموضوع المثار يمتلك اهميته وجدواه، ويتطلب بالتالي نقاشاً عميقاً، لا يمكن ان تتيحه المساحة المتواضعة المخصصة لهذه الحلقة. فالقضية اياها فضلاً عن خطورتها، فإنها تمتلك امتدادات مرضية، ما يتطلب حلاً سريعاً لتفادي تأثيراتها السلبية التى ضربت مباني بغداد المهمة، بسبب القرارات "الشعبوية" المتخذة من قبل اصحاب القرار متواضعي الثقافة، ومدعي "الخبرة" المهنية المزعومة. والواجب المهني والوطني يتطلب منا جميعاً أن نقف متحدين ضد هذه الممارسات الفجّة التي لم تراع قيمة العمارة المنجزة، وحرمتها الحضرية. علينا تدارك الوضع سريعاً، والعمل بجد وكفاءة لإيجاد حلول ناجعة لهذه المشكلة التى شوهت رموز بيئتنا المبنية... واساءت كثيراً الى فخرنا المعماري!