TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق :مباهج القراءة

اوراق :مباهج القراءة

نشر في: 23 فبراير, 2010: 05:28 م

محمود عبد الوهاب فجرُ معرفتنا بدأ بالقراءة، قراءة عامة من دونما اختيار. كنّا نبحث عن ذواتنا خارجها، مثل طفل يكسر لعبته، ويطيل التحديق إلى داخلها المحشو بالقطن والأسلاك، بحثاً عشوائياً عن الصفير الرتيب الذي يأتيه بلا انقطاع كلّما ضغط على جسد لعبته بيديه. الطفل، هنا،
يجهل أنه يبحث عن العلّة أو السبب، إنه يستجيب، بعشوائية أيضاً، لذاته في صـفير اللعبة، وهو الكشـــف " القَبْـلي " للمعرفة في أدنى مستويات أنساقها. طفولة المعرفة، هي معمار الخبرة الذي سيشيَّد كلّما كانت الخبرة تراكماً معرفياً، ووعياً بالحياة، وتنظيماً لها. ما كان يرفع من شأن قراءتنا، آنذاك، لغطُنا بما نقرأ، واستباقنا الأقران بما نقرأ، وادّعاؤنا بفهم ما نقرأ، وتمثّلنا ما نقرأ في سلوك لا يخلو من أوهام، في هذه الحالات الأربع، لغطاً واستباقاً وادّعاءً وتمثُّلاً، تتوهج الذات بفتائل المعرفة المبكّرة. ما أكتبه الآن، ليس تاريخاً منضبطاً لتحوّلات القراءة ومباهجها، إنّه استبطان قائم على مقدار ما أمسكُ به من حقيقة الاستذكار والمعرفة، وعلى مقدار ما أعجز عن إمساكه، استبطاناً أو لغة. في مرحلة تالية، كنّا نقرأ ما كان الأسنُّ منا يرشدنا إليه. قرأنا المنفلوطي وجبران والمهجريين والنثريين الرومانسيين، وفي مرحلة لاحقة ، قرأنا طه حسين وتوفيـــق الحكيم ونجيب محفوظ وسلامه موسى، و كان كل ذلك حلماً تعويضياً عن جدب الحياة. في مدرستنا كان أمين المكتبة رجلاً قصير القامة محدودباً، تقبع على رأسه دائماً سدارة سوداء، تبدو لطولها وقصر أمين المكتبة كأنها امتداد لقامته، وكانت ارشاداته طريقاً رحباً إلى القراءة المجدية. رواية " أرض البشر " للكاتب الفرنسي " إكسوبري "، ورواية " صمت البحر " لـ " فيركور " أثّرتا فينا، نحن جيل الخمسينيات، كنّا نستظهر عباراتها وسياقاتها ببهجة، وكنّا نردد ما استهلّ به إكسوبري روايته : تعلمنا الأرض عن أنفسنا أكثر مما تعلمنا الكتب، ذلك لأنها تقاومنا. من صفحات تلك الروايات والكتب استقامت قاماتنا، وبدأت مرحلة الاختيار لنوع القراءة والكتاب. كنت أعيش مع أبطال رواية إكسوبري، وضوء المصباح المغبّر الشحيح يترجرج على صفحات الرواية، وأنا مع اكسوبري في طيرانه البريدي، وفي مطاراته، وفي مغامراته، وفي الصحراء التي سقطت فيها طائرته، ومع معاناته في العطش والجوع وترقّب من ينجده في محنته تلك . القراءة ليست كتاباً ورقياً، إنها إضافة إلى الحياة، وامتداد لها، وإثراء بالتعويض عمّا لا يمـكن أن يُنال من الواقــع. و حافـز القـراءة، كما يذكر الكـــاتب السوسيولوجي "سكاربت"، غالباً ما يتولد من اختلال بين القـارئ وواقعه، اختلال ينبعث من عدم الرضا بالواقع، ذا ما ذكره "هيجل" أيضاً في أن السعادة تأتي من المعرفة التي يُمكنها وحدها أن تصالحنا مع الواقع، ويشير سكاربت أن من حوافز القراءة بلوغ قيم عليا غير متحققة في حياة القارئ، أو لطموح ثقافي، إنها لجوء ضدّ لا معقولية الحياة، و يذكر سكاربت أيضاً أن وظائف القراءة متعددة، فمعظم ذوي الاختصاص مثلاً، لا يميلون إلى قراءة اختصاصاتهم، وفي مثل هذه الحالة يؤثرون ما هو ممتع في قراءتهم، وكبار السنّ غالباً ما يكون الكتاب المفضّل على مقربة من أسرّتهم، ويوظّف القراءة عدد من القرّاء توظيفاً علاجياً للحالة النفسية التي تنتابهم، وتُتاح للمريض، بسـبب عزلته، قراءات قد لا تتكرر في حالات شفائه، وقد يقتني الكتاب من يتظاهر بالثقافة، وهو حافز تفاخريّ، غير أن الأدباء والفنانين يرون أن الكتاب غاية لاكتساب ثقافة تستغرق الوعي كلّه، والإحاطة بالجديد والحديث من المعرفة، وهو حافز وظيفي. كرّس " البرتو مانغويل " كتابه " يوميات القراءة " لتأملاته قارئاً شغوفاً، يرى أنّ القراءة تضفي واقعية على الأوهام التي يرويها الكِتاب لقرائه، ويحملهم على أن يعيشوها حقيقة. مباهج القراءة، تجعل من شخص القارئ شخصاً مختلفاً، فالقراءة عامل تغيير، والكتاب مثل النهر " لا تدخل فيه مرتين "، لكنّ تلك المباهج كالكهف المكتنز، لا يفتح بابه إلاّ بكلمة السرّ، وكلمة السرّ هنا، قدرة القارئ على التعلم، وإدراك ما يقرأ. بعد فقده بصَره، كان بورخس يبكي، وهو يصغي إلى ما تقرأ له أمه، كانت تسأله: لماذا تبكي وكان بورخس يجيب: أبكي لأنني أفهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram