قبل بضع سنوات، أعلن بيل غيتس مالك شركة “مايكروسوفت” أكبر شركة للبرمجيات في عالمنا في دراسة له، بأن عصر الكتاب الورقي المطبوع قد انتهى وسيحل الكتاب الإلكتروني محله، ولكنه - وياللمفارقة - نشر كتابه الذي يضم هذه النبوءة بشكل كتاب ورقيّ ترجم إلى لغات عديدة وبيعت منه ملايين النسخ وشكل هذا الأمر رداً مفحماً على نبوءته ذاتها، وتغيرت أشياء كثيرة في عالمنا غير أن عشاق الكتب لبثوا يهيمون عشقاً برائحة كتاب ورقي عتيق يعيد لهم ذكريات اعمارهم أو ينسحرون بكتاب جديد ما يزال يضوع بروائح أحبار المطبعة ويسعدون لزيارة المكتبات، وهم صامدون إزاء غواية وهيمنة الكتاب الإلكتروني ومعهم جمعياتومؤسسات تروّج لحماية القراءة الورقية وتسهم في تعزيز شخصانية العلاقة مع الكتاب الورقي لدى الأجيال الجديدة، وتقيم مهرجانات القراءة وحفلات التبرع بالكتب الورقية.
أذكر هنا مبادرة المغنية الشهيرة دولي بارتون التي أطلقت مشروعاً جديداً ومثيراً أسمته "مكتبة الخيال " لتحفيز أطفال العالم على قراءة الكتاب الورقي ومنحهم متعة التخيل والتفكير الإبداعي وإبعادهم عن إدمان الألعاب الالكترونية التي تحدد نموهم العقلي وقدراتهم التحليلية، واهتم مشروعها بأطفال من فئات عمرية مختلفة، فأرسلت خلال عقدين من الزمان ملايين الكتب الورقية إلى الأطفال في مختلف أنحاء العالم ومنحت المتعة والسعادة إلى خمسة وثمانين مليون طفل وصلتهم القصص المصورة من شبكات مشروعها الواسعة.
ألا يفكر مطرب عراقي ثري يوماً بإطلاق مشروع ثقافي مهم مثل هذا لخدمة أطفال وطننا ؟ ألا يعلم فنانونا بأنَّ قراءة كتاب تحدث فرقاً كبيراً لدى الانسان ؟ أظنهم لا يعلمون، فهم ليسوا بوب ديلان الشاعر والقارئ الممتاز للتراث الشعري العالمي وهم لايملكون كرم الروح الذي تتمتع به المطربة دولي بارتون، التي حرمت في طفولتها من الكتب، فشاءت أن تفيض بسخائها على أطفال العالم وتعلمهم أنَّ القراءة صلاة حقيقية لبلوغ الأمان والتطور الروحي والعقلي، كل مايعرفه مطربونا حفنة من العبارات البليدة المكررة، لأنهم لايقرأون سوى نصوص الأغاني.
بعد خروجي من العراق اضطررت أحياناً للإقامة في بيوت معارف كانوا يتمتعون بإجازاتهم السنوية ويدعونني لأقيم في منازلهم ريثما يعودون أو حتّى أجد لي سكناً، كانت تلك المنازل موحشة عمياء فهي بلا مكتبات ولاكتب باستثناء بعض كتب الأطفال وملفات تخصّ العمل، كنت أرى البيت الأنيق محض جدران بكماء لا تشعرني بالأمان والألفة، تساءلت كيف سأمضي أيامي في هذا الجدب؟ فقررت القيام بمبادرة سريعة واشتريت مجموعات من الكتب المختلفة وأنشأت بذرة مكتبة قد تشجع سكان البيت على تنميتها، فعلت ذلك مع بيوت عديدة فتوزعت مكتباتي المرتجلة وكتبي التي أحب في العديد من المنازل التي أقمت فيها.
بتطور وسائل التواصل والاتصال والثقافة الالكترونية تغيرت تبعاً لذلك علاقتنا بالكتاب وندر التواصل الحقيقي بين البشر ونضب معين الشوق والحنان بينهم بعد هيمنة التقنيات الرقمية على المشاعر والعواطف وميادين العمل، وتخلى بعض مدمني القراءة الأبديين عن الكتاب الورقي وأخذوا يحملون مكتباتهم الإلكترونية أينما أتجهوا حتى صرنا نطلق عليهم صفة : قرّاء الضوء، غير أن عشاق الكتاب الورقي المتشددين صمدوا ولم يخونوا المكتبة والكتاب المطبوع الذي تربطهم به علاقة مادية محسوسة تحقق لهم النشوة إذ يعانقون الكتاب، يشمونه، يلمسونه فينشئون علاقة شخصية حميمة تشعرهم بامتلاك الكتب التي يحبون، لكنني وبحكم تنقلاتي وفقداني لمكتبات كثيرة، تخليت اضطراراً عن ولائي للكتاب الورقي وتحولت الى الكتاب الالكتروني لأغدو من جماعة قرّاء الضوء.