ذهبت الناقدة الأمريكية ليندا هتشيون في كتابها( سياسة ما بعد الحداثية) إلى اعتماد مصطلح ما بعد نقدي سمته النقد التورطي، وهو مفهوم له معنى اشراكي ملتبس وتوصيف واهمي مشكل أو إشكالي، يحمل من المحاذير ما ينبغي أن ينأى الناقد الأدبي بنفسه عنها. وقد عدت هذه
ذهبت الناقدة الأمريكية ليندا هتشيون في كتابها( سياسة ما بعد الحداثية) إلى اعتماد مصطلح ما بعد نقدي سمته النقد التورطي، وهو مفهوم له معنى اشراكي ملتبس وتوصيف واهمي مشكل أو إشكالي، يحمل من المحاذير ما ينبغي أن ينأى الناقد الأدبي بنفسه عنها.
وقد عدت هذه الناقدة التجريد هو بداية التورطية ما بعد الحداثية التي تلقي بالناقد في تناقضاتها وأنها قد توصل إلى التصالح مع السياسة كون الأخيرة أي السياسة معروفة ومألوفة في أن لها أسلوبها النقدي التورطي ص67.
وهي لا ترى التورط في النقد يفيد إلا في التفكير الانعكاسي الذاتي والتاريخي وكل ما يعمل على تهديم أعراف وإيديولوجيات ثقافية مسيطرة في القرن العشرين في العالم الغربي ص82، مؤكدة أن التورط الذي ارتهن بما بعد الحداثة ليس تثبيتاً كاملاً أو التزاماً صارماً وأننا جميعاً متورطون في عملية شرعنة ثقافتنا ومنها التورط في الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية وأنظمة الخطاب الكلامي والتوتر بين الممارسة والتطبيق والثقافة العليا النخبوية والثقافة الشعبية الجماهيرية.
وبينت أن خطورة النقد التورطي تكمن في وضعه حقبة ما بعد الحداثة داخل المذهب الرأسمالي الاقتصادي والمذهب الإنساني الثقافي.
ومعلوم أن هذين المذهبين الرئيسين سائدان في غالبية بلدان العالم الغربي وهما أبويان يقومان على إذابة الفرد في علاقة بالمجتمع وبما يعلي في بعض الاحيان من شأن الذاتية ويتغافل عن الحقائق الموضوعية وهذا هو المطب أو الورطة التي يقع فيها الناقد التورطي الذي يتنكر للتمحيص والتنقيب والتقييد التاريخي تجنياً أو نحلاً أو مغالطة ..الخ
ويبدو أننا لسنا ببعيدين في بعض ممارساتنا النقدية عن هذه الملمحية فقد أخذنا نلمس نقداً تورطياً اخذ يشيع مشكّلاً ظاهرة تتمرأى بصيغ مختلفة فقد تكون في شكل ترويج بهرجي من خلال جلسات أو محاضرات أو ندوات تتبناها رابطة معينة أو منتدى بعينه أو منظمة ما بإزاء رجال أو نساء توسم كتاباتهم بالشعرية أو القصصية وهي ليست كذلك.
أو تكون هذه الظاهرة في صيغة تهريجية للمفاهيم تخلط الحابل بالنابل بلا ضابط أو كابح مع التمادي في المغالطة والتشويه منفلتة من أي تنبيهات تتحرى الدقة أو تصحيحات تسمح بفتح ابواب الحقيقة بوجه هذه الممارسات أو على الأقل توجيه النقد اليها .
والأدهى من ذلك كله أن لا يتحرز الناقدـ وهو يبغي الظفر بالجديد ـ من أن يقع في ورطة التثبت من تنظير ما بإزاء قضية أدبية معينة معتقداً أنه أول من اجترح مفهومها وانه قد سجّل سبقاً نقدياً ليمضي في إثبات جدوى ما اعتقد السبق فيه متوهماً أنه عاين عن كثب وتملّى بقصدية ملوحاً على رؤوس الأشهاد أن المصطلح من عندياته لوحده ..
وإذا كان التهريج والترويج ينطليان على عموم المتلقين وجمهور القراء المتعلمين فإنه لن ينطلي على المهتمين من النخبة المواكبة للمشهد الثقافي لا سيما تلك التي كانت شاهدة على مراحل من التجديد والابتكار الإبداعيين طيلة عقود من السنوات.
وبالرغم من ذلك تظل المشكلة قائمة ويظل العموم القرائي هو المتسيّد على المنتخب الثقافي ومن ثم يصبح أمر الالتباس واللا مواضعة حاصلة من غير اكتراث لأيّ تنويه أو تصحيح أو توضيح
ومن هنا تأتي خطورة النقد التورطي كونه يعتمد العمى القرائي والثقافي ويغافل الاذهان المتدربة أو المستجدة في عالم القراءة والدرس.
ولكي نقوم بالتمثيل على ظاهرة النقد التورطي في توهم السبق في اجتراح مفهوم ما والتنظير له ما أخذنا نسمعه من بعض النقاد عن مفهوم (المتوالية القصصية).
وتقودنا عملية البحث عن المنابت والجذور الى عدّ ارنست همنغواي اوّل من اشتغل على هذا التكنيك القصصي في قصته ( في زماننا) التي بنيت على شكل متوالية سردية مؤلفة من ثماني عشرة قصة قصيرة.
وقد عرف الكتّاب العراقيون هذا اللون من الكتابة القصصية وحققوا فيه سبقاً عربياً، ويعد الاستاذ الناقد والروائي جاسم عاصي أوّل من نشر في بداية التسعينيات تنظيراً لمفهوم صاغه من وحي المتوالية العددية أو الحسابية وسماه (المتوالية السردية) وقد اتبع هذا التنظير بعد سنوات بتطبيق اجرائي للمفهوم تمثل في كتابته لقصتين على سبيل االمتوالية السردية هما (الشروع واليقظة) فأما قصة اليقظة فنشرت في مجلة الاقلام في العدد الثاني عام 1999 وقد ذيَّل الناقد القصة بهامش هو بمثابة ريادة تنظيرية وسبق نقدي إذ قال : (هذه القصة الثانية من متوالية قصصية بعنوان مستعمرة المياه نشرت الأولى بعنوان الشروع في مجلة الأقلام العدد السابع في 1996 حيث تشكل كل قصة وحدة مستقلة لكنها ذات صلة بالمعنى المركزي للمتوالية)
ويبدو أن الاجتراح النظري الذي قدَّمه الناقد لم يأت من فراغ بل جاء تعبيراً عن حقبة زمنية مهمة من تاريخ السرد العراقي تمثلها مرحلة الحصار حينما سادت ثقافة الاستنساخ وما رافقها من صعوبات ومخاوف أمنية وفكرية جعلت بعض الكتاّب يحجمون عن نشر اعمالهم القصصية أو الروائية دفعة واحدة ويفضلون بدلاً من ذلك تقسيمها على مراحل لتنشر على مدد متباعدة..
في حين فضّل بعضهم الآخر نشر اعمالهم القصصية في مجلة الاقلام أو غيرها من المجلات الادبية على شكل اجزاء كل جزء يحمل عنوان قصة قصيرة تخلصاً من الصعوبات المادية أولاً واطمئناناً الى انهم يوماً ما سيقومون بجمعها تحت دفتي غلاف واحد يحمل جنس(رواية) اخرى.
ولقد كان تصدي الناقد جاسم عاصي لهذا اللون من التحول الكتابي معبراً عن وعي نقدي طبّقه عملياً على قصص عراقية نشرت اول الامر قصصاً قصيرة، ثم تبين فيما بعد انها نتاج روائي اعتمد اسلوب التوالي السردي ومن ذلك مثلاً (حكايات دومة الجندل) للروائي جهاد مجيد، التي نشرت بعض فصولها في مجلة الاقلام، فضلاً عن اعمال روائية اخرى كثيرة نشرت في مجلات ادبية مختلفة آنذاك.
وإذ نؤشر هذه الحقائق التاريخية فإننا نبغي الموضوعية التي لن تدمغها الذاتية التي هي عدوة الادراكية بمفهومها التعرفي التعييني لا بمعناها المفهومي ذي القيمة العاطفية ولا غرو أن الادراك هو الذي يقود الى المعرفة ويوصل الى التعرف الذي به نستطيع أن نفصل السر عن الكذب.
ولطالما كان النقد بكل ضروبه قديماً وحديثاً حريصاً على أن يتحلى ممارسه بالإدراك الذي به يحلل بلا تعسف ويتمكن من التأويل بلا تهويل.
لتغدو البغية من ممارسة النقد وما بعد النقد محددة وظائفياً بسمات منها الرصد والتوثيق، فضلاً عن الإدراك والتعرف اللذين لا يهونان التاريخ ولا يتغاضيان عن الموضوعية مع البرم من ادراك واعٍ لدور ما بعد النقد كنشاط يومي حاضر تتم ممارسته فحصاً وتدقيقاً واستدلالاً وتبادلاً.
وإن أهمية ما بعد النقد تفرض علينا اليوم أن نوليه الاهتمام المطلوب ليكون له حضوره ولتتم ممارسته جنباً إلى جنب ممارسة النقد الادبي والنقد الثقافي، اللذين يظلان قابعين تحت عباءة نقد النقد منضبطين بإجراءاته وخاضعين لمنهجياته بوصفه الحارس الأمين في غابة القراءة، فهو الذي يقوّم البحث المنهجي ويرصّن الدرس النقدي ضبطاً ودراية مع توجيه مساراته وتحديد وظائفه التي ينبغي أن يؤديها .
ومثلما أن الإبداع لا يسير من دون نقد تالٍ عليه كذلك هذا النقد سيظل بدوره محتاجاً إلى نقد النقد، ومن دون هذه االتواصلية في العملية الإبداعية ستفقد هذه العملية رصانتها وينفلت عقال قواعدها ويكون الوهم هو مآلها وموئلها معاً.
واجمالاً.. تظل الحقيقة بكل اشكالها العلمية والمعرفية والتاريخية والانسانية هي بغية الناقد ومراده ولقد اصبح عمل الناقد اليوم شبيهاً بعمل الطبيب الجرّاح الذي اذا ما ركن الى عندياته وافتتن بمهارته الذاتية فصلاً ووصلاً، رتقاً وفتقاً، انقلب السحر عليه ودخل في منطقة العمى وضاعت البصيرة وفقد من ثم مقبولية مرضاه وثقتهم.
وما الفعل النقدي إلا فعل جراحي يتخذ من التشريح والتفكيك والتركيب ادوات تساعده في بلوغ مراده ولن يبلغ مراده إلا اذا اعمل تلك الادوات على وفق أسس موضوعية وموثوقية بلا تسليم للذاتية مع اكتراث بالتجذير للأصل والتوثيق للمرجع اثباتاً للسبق والريادة .
وهذه هي أولى المسلمات العلمية التي جاءت بها النهضة العلمية والادبية وحققت عبرها رصيداً معرفياً كبيراً احدث انقلابات فكرية مهمة ورؤى فلسفية جديدة.
وما المهمة التي ينبغي أن يضطلع بها أيّ باحث أو دارس الا التمعن المتعقلن والتفكر المؤرشف والتحاور الحقيقي وبهذا تتحقق الجدة والابتكار ويتمكن الناقد من إعادة انتاج المنتج لا مصادرته والاتيان بما يجدده لا بما يشابهه أو يكرره .. وبعكس ذلك لن يكون إلا التعالي الذي جل عنايته موجهة نحو الوجاهة التي لا تفضي الا الى تهاوي الرصانة.