TOP

جريدة المدى > سينما > في صحبة السحرة - 2 - .. وجوه جعفر علي

في صحبة السحرة - 2 - .. وجوه جعفر علي

نشر في: 27 يوليو, 2017: 12:01 ص

هذه المكتبة ليست مكتبة مخرج سينمائي، إنها مكتبة باحث. مكتبة تدل على أن صاحبها يهمه أن يطوف في مختلف فروع المعرفة، ، مكتبة أشبه بمائدة عليها ألوان مختلفة من الطعام ، وصاحبها يتنقل من لون إلى آخر.- أنا احاول الاحتفاظ بمكتبة متنوعة، فهذا ما يتطلبه عملي

هذه المكتبة ليست مكتبة مخرج سينمائي، إنها مكتبة باحث. مكتبة تدل على أن صاحبها يهمه أن يطوف في مختلف فروع المعرفة، ، مكتبة أشبه بمائدة عليها ألوان مختلفة من الطعام ، وصاحبها يتنقل من لون إلى آخر.
- أنا احاول الاحتفاظ بمكتبة متنوعة، فهذا ما يتطلبه عملي قال لي جعفر علي وهو يلاحظ دهشتي.

• لكنك مختص بفنون السينما؟  قلت له.
- لاتنسى إنني خريج كلية الآداب فرع اللغة الانكليزية .
• وتركت الآداب ودرست السينما والتلفزيون في أميركا .
- ياعزيزي ما تقدمه السينما ما هو إلا ترجمة لمُخيّلة الأديب، يُعاد تقديمها بشكل مصوّر .
أنظر الى المكتبة التي تأخذ حيزاً كبيراً من الغرفة التي يتخذها مكاناً لعمله، وتتنقل عيناي بين مختلف أنواع المعرفة، مسرح، سينما، تشكيل، رواية ، تاريخ وفلسفة، سياسة واقتصاد.. وأسأله:
• ما الذي تضيفه هذه الكتب لعملك السينمائي؟  
- الكتب مثلها مثل الغذاء، تمدّنا بطاقة فكرية، وتساعد في عملية الخلق  الفني الذي يظهر أحياناً في اخراج مسرحية، أو تأليف قطعة موسيقية أو التخطيط لفيلم سينمائي،  أو ترجمة كتاب، أو إلقاء محاضرة على الطلبة، أو كتابة بحث فني، هذا هو دور الكتب في حياتي، فهي غذاء يهضم، وليست مراجعَ أعود إليها .
• لكني التقيت بالكثير من الفنانين، لم تشكل الكتب جزءاً من حياتهم.
- لايمكن لفنان أن يبدع من دون القراءة والتعلّم، فأنا لا اتصور أن هناك فناناً عظيماً، لم تؤثر فيه الكتب.
• لكن الفن حرفة قبل أن يكون قراءة كتب؟
- إن اتقان حرفة الفن أمر مهم ، لكنه ليس كافياً، إن الحرفة هي الجهاز الذي ينفّذ به الفنان الموضوع الذي يريده ، لكن هذا الجهاز يحتاج أن يمتلئ بمادة ، فلا يمكن أن تعمل السيارة من دون بنزين.
وبحثت في مكتبة جعفر علي عن الشعر، فوجدت ديوان السيّاب والجواهري ، ومجموعة واحدة للبياتي، وقبل أن اسأله، أشار الى جناح في المكتبة يضمّ عشرات الكتب باللغة الانكليزية.
• معظم ما اقرأه من الشعر باللغة الانكليزية، يسحرني بريشت وطريقته في توظيف الشعر مسرحياً، ولوركا، واليوت طبعاً وخصوصاً مسرحياته الشعرية، لكني مغرم بالسيّاب، واتمنى أن أقدم فيلماً عن حياته.
******
الذين يعرفون جعفر علي جيداً ، يعرفون أن له عدداً من الوجوه .. أحدهما الذي كنت أراه عندما التقي به في غرفته بأكاديمية الفنون الجميلة ، وجه مشدود مازالت  آثار الماضي مؤثرة فيه، لكن بعد دقائق حين يدخل أحد الطلبة ليتحاور معه  ،  يمر هذا الوجه بعملية تحول سريعة، سوف نرى بوجه  فنان هادئ يركز في الكلمات التي ينطق بها. وأحياناً ترى وجهه المحايد الذي لايريد أن يرهق نفسه في حوار بلا جدوى ، فهناك جعفر علي الكاتب والمخرج المسرحي، وهناك جعفر علي الأستاذ الاكاديمي، وهناك  جعفر علي عاشق السينما ، وهناك جعفر علي الذي يريد أن يكتب سيرة سينمائية للمجتمع العراقي، وهناك أيضاً جعفر علي الأديب الذي جرّب كتابة القصة والشعر، وهناك جعفر علي الذي عشق العمل الصحفي، وهناك جعفر علي الذي ساهم في صناعة التلفزيون في العراق، وهناك جعفر علي الموسيقي الذي أصرَّ ذات يوم أن يؤلف المقطوعات الموسيقية الخاصة بمسرحية فيت روك ويعزفها بنفسه، أما الوجه الأهم فهو وجه الأب الحاني لتلامذته والعاملين معه، لم أرَ قبل جعفر علي ولا بعده، فناناً كبيراً ينطوي على هذا القدر من الطيبة والتسامح والرعاية  ، لذلك لم تجد أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة، له كل هذا الحب في نفوس طلبته وزملائه. كل هذه الوجوه لصاحب المنعطف والجابي  تكاد تكون إلى حد ما، وجهاً واحداً لمثقف عراقي ، وطني لم نكتب تاريخه الحقيقي بما فيه الكفاية .
أحياناً كنت اتساءل ، وأنا اتسلل إلى غرفة جعفر علي، لماذا أصرُّ على الجلوس معه، أحياناً اجد نفسي مشدوداً إليه، وأحياناً أُخر يدفعني الفضول الصحفي لمعرفة السر وراء شخصية جعفر علي، ففي تاريخ السينما العراقية لم تسمح له الظروف، سوى إخراج عدد من الأفلام لاتتعدى أصابع اليد الواحدة "الجابي، المنعطف، سنوات العمر– لم يكتمل بسبب ظروف انتاجية – نرجس عروس كردستان"، ومع هذا لايمكن الحديث عن السينما العراقية من دون ذكر جعفر علي، كونه أحد أبرز صنّاعها. بل يمكنني القول، إن حياة جعفر علي كلّها هي سلسلة من المشاهد السينمائية ، إن جعفر علي الذي يجلس قبالتي، عقله يعمل في مكان آخر، مع آلة السينما، يتكلم يجيب على بعض اسئلتي، لكنه يسرح في ترتيب مشاهد فيلم سينمائي يحلم بتنفيذه، وهذا ضروري لفهم شخصية جعفر علي، فهو خلال اكثر من أربعين عاماً وبالتحديد منذ تخرجه من كلية الآداب عام 1956 وحتّى لحظة رحيله  ، كان لايطلب من الدنيا سوى أن يعمل في السينما، واتذكر حين  أقمنا له احتفالاً في منتدى المسرح عام 1996 أيام ما كنت أدير  المنتدى، كان آنذاك مريضاً ومتعباً، وألقى كلمة قصيرة دمعت عيناه فيها وهو يقول : " امنحوني فرصة لكي أخرج فيلماً سينمائياً، فأنا من دون السينما أنسان ميت"  ،  لقد ظلَّ مهموماً في السينما والفن بصفة مستمرة ، في قاعة الدرس، في كتابة سيناريو فيلم جديد، في العمل مخرج منفذ مع أحد زملائه، في ترجمة كتاب سينمائي جديد، في البيت في الكلية  ، في البلاتوه ، وراء جهاز المونتاج، إنه فنان 24 ساعة في اليوم ، تحس أنه فنان منذ لحظته الأولى في الحياة، إن جعفر علي يضع لنفسه مقاييس عمل أخلاقية صارمة، فهو يعرف أنه يعيش في وسط فني من السهولة فيه أن يتجرد البعض من قناعاتهم، في الدنيا التي صنعها جعفر علي لنفسه  كان الالتزام والرؤية الواضحة، احد المضامين التي تستمر بها الحياة .
واسأله ذات يوم،  كيف يبدأ يومه وكيف يختمه، فيقول لي،  ما أهمية ذلك، إن هذا النوع من الاسئلة  لاداعي لها ولا أهمية، فرضتها عليك للأسف تقاليد صحفية غير دقيقة، إن عالمي سواء كنت نائماً طوال النهار أو كنت أعمل أو أصبت بأرق، ماذا يهم القارئ، ثم يحدثني عن طفولته فيقول، ببساطة محبّبة يعجز عنها الكثيرون: "كانت أمي  هي عماد الأسرة، ربتني بيديها متحايلة للوصول بي الى آخر المشوار الصعب في الحياة".
وأنظر إليه وهو يلقي محاضرته على الطلبة، فنان ينحت أدق تفاصيل الفيلم السينمائي، يبهر الطلبة بأسلوبه الدقيق والبسيط والعميق في الوقت نفسه.
******
الذي يتابع أفلام جعفر علي، سيدرك أنه إزاء مخرج  يؤرقه الواقع وتناقضاته، لم يفارقه حلم التغيير، وكان انشغاله بتغيير الواقع  اكبر من ولعه بالسينما في ذاتها، بمعنى أن السينما عنده، أداة إدراك معرفي للواقع وتناقضاته الأساسية  أكثر منها أداة إدراك جمالي له، بمعنى آخر، أن السينما هي أداته في فهم العالم، الحياة، الانسان،  وهي عنده تحل محل السياسة أو هي أداته السياسية، هي حزبه السياسي الخاص  ، وهو قادر عند مناقشته لتلك القضايا على أن يقوم بتجريدها من تفاصيل الحياة اليومية وتخليصها من المبتذل والعارض والاستثنائي والوصول إلى أطرافها الأساسية وجوانبها الأكثر هيمنة، وهو في ذلك كله، إنما يريد أن تجادل فكرته ورؤيته الخاصة تجاه الواقع مع المجتمع كله ، يحدثنا جعفر علي، أنه  كان يريد مع بداية أفلامه في (الجابي 1969) الوصول الى سينما عراقية خالصة  تستمد مقوماتها الجمالية من مكونات الثقافة العراقية وبنائها المتجدد .
وأسأله عن تجربة المنعطف فيقول :
- كان ثمة نوع من الإثارة بالنسبة لي أنا كمخرج، أن يعمل في ثاني أفلامه مع ممثلين كبار في مكانة يوسف العاني وسامي عبد الحميد وطعمة التميمي، وأنا من الذين يسحرهم التمثيل، لأن الممثل يجعلك تسبر وتكشف الشخصية ، وأنا كمخرج، اسعى الى اكتشاف مايوجد بداخل الممثل، والممثل يحتاج الى اية مساعدة يمكن أن يقدمها له أي شخص على نحو أفضل "وبمجرد أن احس بأن الممثل عاجز عن فعل أي شيء ما، فإنني تلقائياً ألجأ إلى الحل الآخر، هناك دائماً الشخصية وفي مقابلها الممثل، واذا كان الممثل غير قادر على الانسجام مع الدور، فإنني أجعل الدور منسجماً معه، وقد اثبتت التجربة التي استمدتها من عملي في المسرح، انها مفيدة وناجحة ومثمرة ، في الواقع أصغي إلى اقتراحات الممثلين بعضها تكون جيدة ومفيدة ، واعتقد أن احدى مسؤوليات المخرج أن يدع ممثليه يشعرون بحرية في سبر الشخصيات التي يؤدونها".  
يندر اليوم أن تجد  فناناً ومثقفاً بجلال وجمال، جعفر علي، إذا ما فكر الفنان أن يخوض غمار زحامات الحياة القاسية، فلابد له من أن يتنازل عن بعض فنّه، لكن جعفر علي، أصرَّ منذ اللحظة الأولى التي قدم فيها مسرحية (ضرر التبغ  عام 1964)  وحتى لحظة رحيله عام 1998 حريصاً على أن يحتفظ بصورة الفنان الوطني الملتزم الذي يَقطر معرفةً ونقاءً وطيبة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram