كاظم الجماسيمثلما تحفل يومياتنا العراقية بالمنغصات ومظاهر القبح المختلفة التي تخلفها قوى الظلام والنفوس القاصرة عن ادراك الهاجس الوطني او التي وضعت مصالحها الفئوية الضيقة نصب اعينها واغفلت عن عمد مصالح الناس الاكثر مكابدة وعناء، مثلما تحفل تلك اليوميات بكل ذلك، فهي لم تخل حتى الان من المظاهر المشرقة للسلوك الطبيعي النابع من صلب الشخصية العراقية واصالتها الفائضة بالطيبة والتراحم الانسانيين.
وانا في الطريق الى مقر الجريدة صباحا، وبين ركاب باص الكيا الذين يفتتحون يوم عملهم الجديد بين شتى التعليقات والانزعاجات التي تثيرها المشاهد الناشزة التي تجري حول باص الكيا التي يستقلونها مضافا اليها الاختناقات المرورية التي تستنزف وقتهم واعصابهم، تساءلت المرأة العجوز الجالسة جواري عن مكان محافظة بغداد، فانبرى اكثر من راكب وكنت بضمنهم للاجابة، ثم رفعت ملفا كان يقبع في حضنها قائلة بصوت متهدج يفيض بالصدق: هذه معاملة ابني الشهيد، صار لي اكثر من خمسة اشهر، رائحة راجعة من دون نتيجة.. وما ان انهت كلامها حتى انهالت التعقيبات التي تصب جام غضبها على المسؤولين، وكيف انهم لا يبالون بمصائب الناس ومشكلاتهم، في الوقت الذي ينهبون المال العام بشتى الطرائق والاساليب و.. و...كانت المرأة العجوز التي تتشح بالسواد تنكمش على نفسها، وتبدو على وجهها المعروق الذي فعلت السنون فعلها فيه نظرة منكسرة تحيطها هالة من العفة العراقية التي نعرفها جيدا في وجوه امهاتنا. مرت لحظات صمت مشحونة، راحت بعد ذلك تشيع في داخل الكيا مشاعر التعاطف مع نموذج لمعاناة الام العراقية الثكلى، ولم يكن مني الا ان ادس بين يديها ورقة نقد من فئة الخمسة الاف دينار وانا متوجس تماما من رفضها، وصدق ظني اذ دفعت بيدي بعيدا، غيران الشاب الجالس قبالتنا، توسل اليها ان تقبل العون دافعا اليها بورقة اخرى من الفئة ذاتها من جيبه، الأمر الذي حفز الآخرين على أن يسهموا في منح العون لها، كل بما ملكت إيمانه..كانت لحظة وجد وتراحم انساني نادرة، الدرس الاول الذي تعلمه إيانا، ان (دنيانا) العراقية بخير، فيما تدعو الدروس الاخرى بنحو عميق وملح المسؤول إلى معاناة المواطن الى الامتثال لهذا الهاجس الإنساني الكبير قبل الامتثال لما يمليه عليه الواجب الوطني المنوط به.
لـحـظـة عـراقـيـة خـالـصـة
نشر في: 24 فبراير, 2010: 04:57 م