مبدعون أحاطوا بالرسام ﭭان كوخ بالاستيحاء والتأويل: دارسون، سينمائيون، مسرحيون، موسيقيون. أنت قد تفهم الرسام عبر رؤيةِ لوحاته وحدها، ولكن فهمك سيظل قاصراً دونهم. هذا يصح على كل أحد ذي إرث إبداعي متميز، ولقد أغنتْ الثقافةُ الغربية هذا الجانب بصورة مثيرة: عبقرية فنية معذبة، مأخوذة بالرسم، مع شيء من مرض عقلي، في حياة تتعثر بالخيبات والعلاقات غير المجزية. فشل في أن يكون واعظاً كنسياً، وفي علاقته مع المرأة. حصل على اعتراف خاطف من بعض الرسامين، وخاصة من صديقه كوكان. لم يبع من أعماله غير لوحة واحدة. في حين تقف لوحته في سوق الفن الأحمق اليوم كأغلى عمل فني بلغ البليون والنصف دولار. لم يجد احتضاناً في حياته إلا من أخيه "ماثيو"، ولقد خلف لنا تحفة من رسائله إليه، تُعتبر اليوم مفتاحاً أساساً لفهمه، إلى جانب لوحته.رأيت الكثير من لوحات هذا الفنان في متاحف ومعارض لندن وفي أوربا، ولكني شاهدتُ عدداً من الأفلام حول حياته: كلاسيكي أمريكي بعنوان ‘Lust for life’ (1956)، وفرنسي ‘Van Gogh’ (1990)، وانكليزي ‘The Yellow House’، وانكليزي ‘Anew Way of Seeing ‘ (2015)، وانكليزي Painting with Words (2010) وهو الأروع، والآن في لندن فيلم كارتون انكليزي/ بولندي لم أره بعد، بعنوان Loving Vincent. كل واحد من هذه الأفلام ينصرف إلى جانب أو مرحلة من حياة الرسام المضطرب: في المصح العقلي، في علاقته بالفنان كوكان، في تأمل لوحاته وحدها، وفي حياته عبر رسائله.. ثم أن ولعي بفن الأوبرا وفّر لي الإصغاء أخيراً إلى عمليْن وُضعا عن حياته الروحية والعقلية هذه، والموسيقى أولى بالانصراف إلى هذين العالمين من حياة انسان على هذا القدر من العمق والالتباس: الأوبرا الأولى وضعها الموسيقي الفنلندي روتاﭭارا Rautavaara (1928 ــــ 2016)، والثانية وضعها البريطاني/ الأمريكي بيرنارد راندز Bernard Rands (مواليد 1934)، صدرت هذه الأيام عن دار Naxos. وثمة عمل ثالث للموسيقي التركي Nevit Kodallıلم أحصل عليه.ألف روتاﭭارا عمله بعنوان Vincent، وهو الاسم الأول للرسام، عام 1987 في ثلاثة فصول. ولقد سبق أن كتبتُ عن هذا الموسيقي الملهم في عمودي الاسبوعي مرتين، وعن "كونشيرتو الطيور" خاصة. سنة ميلاده كانت السنة التي توقف فيها الموسيقي الفنلندي الرائد سيبيليوس عن التأليف. روتافارا هذا لم يهجر خطَّ سيبيليوس الموسيقي باسم ما بعد الحداثة، والتمرد على الجذور، بل تابع المجرى. وعَبر هذا المجرى أنضج خصائصَه الفردية، رغم أنه، بعد دراسته في هيلسينكي، واصلها في الولايات المتحدة، وفي سويسرا. لكلِّ فصلٍ افتتاحيةٌ أوركسترالية، تستوحي لوحةً معروفة: الأول مع لوحة "ليل كثير النجوم"؛ والثاني مع لوحة " حقل حنطة مع غربان"؛ والثالث مع لوحة "كنيسة أوفيرس". والفصول جميعاً تدور أحداثها في المصح، ولكن تداعيات الماضي لا تتوقف. أكثرها تأثيراً تلك التداعيات التي تبعثها مخيلة مليئة بالرؤى الروحية/ الدينية. في مشهد يُدعى فيه إلى العشاء، يرى نفسه وسط 12 مريضاً على طاولة الطعام، وبفعل عمق الرغبة بالتضحية والفداء يعرض على المرضى خبزه/ لحم جسده، وخمرته/ دمه، متمثلاً المسيح في العشاء الأخير. جفّل المرضى عن أماكنهم فهربوا مذعورين. في الأوبرا الجديدة Vincent لـبيرنارد راندز، والتي تدور أحداثها في المصح أيضاً، يأخذ العمل خطوة أكثر طليعية. الأحداث تكاد تُستوحى جميعاً من الرسائل المتبادلة بين الرسام وأخيه "ماثيو"، وهناك كثير من الشواهد ترد على لسان الطرفين، وكأن لوحة الرسام التي تعتمد التعارضات الدرامية الواضحة تتحول إلى تعارضات أنغام وكلام. فالموسيقى كثيراً ما تحاكي بصورة بالغة الرقة أشياءً وأفكاراً؛ هناك كورس، وعنف هارموني، إلى جانب رقة أوركسترالية. كنت أصغي، وأعاود الاصغاء، بفعل جدة العمل، ولا أتجاوز متابعة النص المطبوع الملحق بالاصدار.حين عدتُ إلى لوحة ﭭان كوخ، بعد رؤى السينما والموسيقى، صرت أحاورها بيسر أكثر.
حين نحاور لوحة الرسام بيسر أكثر
[post-views]
نشر في: 6 أغسطس, 2017: 09:01 م