د. صفاء الحافظالكتابة عن الرفيق "أبو سعيد" الكاتب الاجتماعي الكبير ليست هينة على كل حال، وخير من يستطيع تقييمه الملايين من قرأئه الذين قد يتفقون معه في الفكر أو قد يعارضونه ولكنهم مع ذلك كانوا جميعاً يقرأونه وتلك سمة بارزة من سمات كتاباته المنوعة.
و(الفكر الجديد) قررت فتح ملف لعبد الجبار وهبي ولا ريب ان المساهمين سيتناولون الكثير من كتاباته بالتحليل، ولكي يكون الملف منوعاً سأقتصر على رواية جانب من نشاطه ونشاط رفاقه وأصدقائه في فترة محدودة سبقت ثورة تمز 1958 وأبتدأت مع فرض حلف بغداد على العراق عام 1955 عندما كان "أبو سعيد" يتنقل بين بيروت ودمشقوالأحداث على الساحة العربية تتلاحق بسرعة مذهلة.بدايات النشاط في بيروتفي الأسبوع الأول من شباط سنة 1955 التقيت بالرفيق عبد الجبار وهبي في محطة الديك ببيروت كان برفقته ولديه الصغيرين نادية وسعد، وفي مقهى البحرين جلسنا نتحدث عن مهمتنا الجديدة في تنظيم الصلة بين الحركة الوطنية في العراق وبين حركة التحرر العربي والحركة التقدمية في العالم، كانت بداية لتكوين مركز لتنظيم العمل خارج الوطن تحت إشراف الحزب وتوجيهه.وبسبب الإرهاب الذي مارسه نوري السعيد ضد القوى الوطنية آنذاك لجأ عدد من الكتاب العراقيين الى بيروت بينهم عبد الرزاق الشيخ علي وعبد الوهاب البياتي وكاظم السماوي وغائب طعمة فرمان، كانوا جميعاً يلتقون صباحاً في مقهى (البحرين) أو في مقهى (فاروق) يقرأون الصحف ويتحدثون في السياسة.ولكن لا يضيع وقت الكتاب والشعراء هدراً كانوا يكتبون وينشرون في مختلف الصحف اللبنانية السياسية والأديبة، وكان "أبو سعيد" مشجعاً وناقداً وأخاً للجميع، عقدنا علاقات جيدة مع الصحفي الراحل نسيب المتني الذي وضع تحت تصرفنا جريدة (تلغراف) التي كانت تنفرد بنشر أحدث الأخبار الواردة من داخل العراق وكان وجه المتني يطفح بالبشر عندما تأخذ عنه الإذاعات العالمية سبقاً صحفياً يخص العراق.ثم توطدت علاقة غائب طعمة فرمان بمجلة (الأديب) أو كان يعمل فيها لقاء مئة ليرة شهرياً، وصباح كل يوم أحد كان الجميع يشدون الرحال الى الجبل الى بيت "أبو سعيد" في قرية ضهر الصوان قرب مصح بحتس، وحول النبع الصغير في سفح الجبل العالي كان الكتاب والأدباء العراقيون يتناقشون كل مرة حول مسألة معينة تخص الشعراء أو الأدب ويستمعون كذلك الى آخر الأخبار الواردة من داخل الوطن، وفي الظهيرة كانت نادية تحمل إلينا قدر (الدولمة) الذي طبخته بنفسها وعمرها لم يكن قد تجاوز (13) عاماً وخلفها سعد الصغير يحمل الخبز والفجل وماؤنا كان من النبع العذب، ولن أنسى كلمات غائب طعمة فرمان الهادئة وهو ينتقد نفسه أيام الحاضرين لأنه أكل أكثر من غيره ويعزو ذلك الى الجوع الذي يصاحبه طوال الأسبوع بانتظار مائدة "أبو سعيد" الشهية، وكنت أعلق مازحاً: حصتك أكبر من حصة الآخرين لأنك تحتاج الى غذاء يساعدك على الاستمرار في كتابة قصصك التي تستهوي القراء اللبنانين برغم أنها مكتوبة بالعامية العراقية!.. "كتب في تلك الأيام قصة قصيرة بعنوان "عمي عبرني".وحدثت أمور جديدة أسقط نوري السعيد الجنسية عن مجموعة من الديمقراطيين بينهم توفيق منير وكامل قزانجي وعزيز شريف وصفاء الحافظ وقرر عبد الوهاب البياتي العودة الى العراق للالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية في السعدية.وسافر كاظم السماوي الى هنغاريا بدعوة من جرمانوس وتقرر إرسال عبد الرزاق الشيخ علي الى بغداد محملاً ببريد خاص، وحدث التبديل الهام في موقف مصر بقيادة عبد الناصر عندما رفضت حلف بغداد وأعلنت عن مقاومتها له وطلبت السلاح من المعسكر الاشتراكي وبدأت بوادر التجمع الوطني بين الاحزاب في العراق وحوصرت المرجعية في سورية ونما شعور قومي تقدمي في لبنان.. الخ الا ان نوري السعيد كان مصراً على مقاومة النهوض الشعبي بالقوة فأرسل أعداداً متزايدة من الوطنين من جميع الأحزاب وخاصة من رفاقنا وأصدقائنا الى السجون والمعتقلات، وكان على تنظيماتنا في الخارج أن تتحرك لفضح الإرهاب والإسهام في عزل الحكم الملكي الاقطاعي عن الرأي العام العربي والعالمي وتوطيد علاقات الحركة الوطنية مع جميع القوى التقدمية في العالم.rnمن أعماق السجون في العراقوصلت من بغداد رزمة تتضمن فصلاً كاملاً عن مذبحة سجن الكوت التي دبرها الحكم الملكي بتوجيه من الاستعمار البريطاني ومجموعة من الرسائل المبعثرة تروي مشاهدات شخصية عن مذبحة سجن بغداد المركزي وكلها وثائق حقيقية سجلها الباقون على قيد الحياة من السجناء السياسيين.باشرنا في ضهر الصوان بكتابة الفصل الأول عن مذبحة سجن بغداد وما ان أنتهيت من آخر سطر فيه سلمته الى الرفيق عبد الجبار فأخذ قلماً وبدأ يكتب المقدمة: "الحائط الطويل.." هكذا بدء الكتابة عن حائط السجن المقابل لوزارة الخارجية التي تحتفظ بوثائق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كانت مقدمة رائعة بودي لو تقوم (المفكر الجديدة) بإعادة نشرها الى ان، أخذنا المسودات وأتصلنا بصاحب دار القلم السيد خليل منيمنه الذي كان يتعاون معنا في طبع الكتب لأنها كتب مريحة على حد قوله، قام أحد الرسامين اللبنانين
أبو سعيد بين بيروت والشام
نشر في: 24 فبراير, 2010: 05:54 م