مصطفى محمد غريب الشهيد عبد جبار وهبي أبو سعيد ذلك الإنسان الذي أشاعت مقالاته وعموده في اتحاد الشعب النكهة السياسية والمتعة في النقد الايجابي وتطوير الحافز الشخصي في توسيع وعي المواطنين له سجل في تاريخ النضال والعمل الصحافي الوطني الديمقراطي وكنت ممن يتابعون اسمه وعموده المتنوع في جريدة اتحاد الشعب الذي يتناول قضايا جوهرية ممزوجة ما بين المطلبي والنظري ،
ما بين الاقتصادي والسياسي وبقيت لفترات غير قليلة من قراءه غير المعروفين حتى كان يوم اعتقالي وسجني وأنا ما زلت يافعاً ولم أكن حزبياً وانتقالي إلى سجن الرمادي قسم المحجر ومنذ الوهلة الأولى اخبرني الشرطي المرافق لي أن البعض من الذين اشتركوا في محاولة اغتيال المرحوم عبد الكريم قاسم موجودين في السجن ويتمتعون بمزايا كثيرة وغرف مفروشة تمتد على طول الممر كما اخبرني أن هناك شيوعيين موجودين في قسم المحجر المنعزل عن السجن العام وأثناء استقبالي من قبل مفوض السجن واسمه فهد المعروف بعدائه للشيوعيين والعريف محمد المعروف بانتهازيته المفرطة طلب مني أن اختار المكان الذي أرغبه باعتباري مسجون في قضية سياسية ملفقة فقلت له ـــ أريد أن أكون مع قسم الشيوعيين العراقيين، وعلى الرغم من انه كتم غيضه وغضبه وأحسست كم كان كارها لطلبي فقال ــ طبك مرض ودوه لجماعته، وهكذا استقبلت وكنت اصغر سجين في المحجر، بقيت هناك لشهرين حتى اضرابات عمال السكائر والاضرابات التي عمت بسبب ارتفاع أسعار البنزين وفي ذلك الصباح جاءوا بثلة من المضربين والمتظاهرين والشيوعيين كان من بين القادمين رجل يضع نظارة طبية على عينيه، ناعم قصير القامة ذو وجه ناعس مفرط بالأحاسيس مفعم بالأمل والوداعة كانت ابتسامته ظاهرة بحيث جعل المستقبلين يشعرون بالفرحة على الرغم من ضيق السجن والمعاملة السيئة والشعور بالغضب من إدارة السجن بما وضعته من فروق شاسعة من بينها تنفيذ أكثرية مطالب الذين نفذوا جريمة محاولة اغتيال قائد البلاد وبين الذين كانوا يدافعون عنه وعن الجمهورية الفتية، وأثناء دخول السجناء الجدد صاح احد القدامى وقد نسيت اسمه وكان من الموصل " والله هَلا يا هَلا بالرفيق أبو سعيد " وبدأ الجميع يصافحونه ويقبلونه وكنت آخرهم وأصغرهم فالتفت إلى الموصلي ممازحاً على الطريقة المصلاوية " قلي بقه زي" فضحك الجميع وهزّ المصلاوي رأسه وفهمت بعد ذلك انه كان يستفسر عني وهزّت الرأس كانت قد أجابت " نعم " انه معنا لان المحجر ينقسم إلى ردهتين واحدة للشيوعيين والديمقراطيين وأمامها للموقوفين العاديين والمتهمين بجرائم بما فيها جرائم القتل، كان يدعوني كل يوم بعد وجبة الغداء وشرب الشاي إلى لعبة الشطرنج بعدما ترددت وقلت له " رفيق (هكذا كنت أخاطبه) أنا ضعيف في لعبة الشطرنج " في البداية جعلني أتغلب عليه وكان يضحك مشجعاً بعدما عرف ولعي بكتاباته وعموده الصحافي وقرأ البعض من شعري البسيط وكان يستمع لي بهدوء وإمعان ويقدم لي النصيحة تلو النصيحة "ها شفت شلون غلبت اللاعوب أبو سعيد " لكن الحال لم يدم بعد محاضرته القيمة التي سماها " برجواوية " ففهمت منذ ذلك الحين الفرق بين الطبقة العاملة المسروقة الجهود وبين الطبقة البرجوازية التي تسرق جهود العمال، منه عرفت عن ابنته أنوار التي تدرس أو كانت تدرس في ألمانيا الديمقراطية وعن زوجته المحامية المناضلة نظيمة وهبي لقد تعلم الجميع منه واستفادوا من ملاحظاته، كان واسع المعرفة وقوي الملاحظة وسريع البديهية بسيطاً لحد اللعنة وطيباً يفوق التصور ولطالما يذكرني على الرغم من مشاغله انه استجاب لطلب عبد الرزاق مراقب البلدية غير الشيوعي في كتابة رسائل عتاب لأخيه الذي لم يزوره بعد حجزه من قبل الحاكم العسكري حينذاك ولطالما طلب منه أن يغني لنا المقام العراقي وكان يجيده وتذكرني تلك الأيام أن عبد الرزاق اشترك في برنامج غنائي في الإذاعة وعندما جاء دوره قال " لقد غنيت ــ مالحرب ما بغيكم إلا قشور واللباب سلام " فطردني مدير البرنامج شر طرده ودفعوني مع بعض اللطمات إلى خارج الإذاعة، وكان تقريباً في كل ليلة يتناول موضوعاً سياسياً أو ثقافياً أو تاريخياً مملوءة بالعبر فيصغي له أكثر من ( 50 ) سجيناً وموقوفاً ومحجوزاً في محجر سجن الرمادي القديم لكن الحال لم يدم حيث استيقظنا في احد الأيام وإذا به يودعنا مرحلينه إلى سجن موقف بغداد.. بعد مرحمتين من المرحوم عبد الكريم قاسم خرجت من السجن وعلى الفور زرت الموقف وكان لي صديق محجوز بتهمة التشرد والتقيت بالشهيد أبو سعيد وحينذاك حملني رسالة شفهية مع صديق آخر للاتصال بزوجتة المرحومة نظيمة وهبي وكانت تسكن بشكل سري في بيت فريد الأحمر على ما اعتقد كرادة خارج وقد نفذت رغبته واتصلنا بها ونقل مضمون رسالته ولم أنسى كلماتها عن صاحب المنزل، لقد خرج بعد ذلك الشهيد أبو سعيد والتقاه ذلك الصديق مرات عديدة فقال لي انه كان دائم السؤال عنك ويقول اشلون حال شاعرنا هل مازال يكتب عليه أن يستمر ويقرأ كثيراً .. ومنذ ذلك الحين وبخاصة بعد سماعي خبر استشهاده وموقفه البطولي صدقوني لم يبارح خيالي بحركاته وكلاماته وابتسامته الرقيقة وحنوه على الآخرين ولقد أخذت بملاحظاته وتوصياته النقدية وتوضيحاته وتشجيعه وطلبه بضرورة تطوير
ذكرى الشهيد عبد الجبار وهبي "أبو سعيد"
نشر في: 24 فبراير, 2010: 06:03 م