مثل العشاق العظماء الذين يدركون أهمية الحفاظ على حدود شخصياتهم المتفردة ولايحاولون تذويب شخصية المعشوق في ذواتهم وهم يديمون الحياة ويكاثرون البشر ويحفظون ذاكرة الانسانية، هكذا يفعل دجلة والفرات منذ ملايين الأعوام يلتقيان ويحافظان على اختلافهما ومثلهما أيضاً تبقى مكونات المجتمع الحي الثري بتنوعه وتحيا متجاورة ومحتفظة بخصائصها ومظاهر ثقافتها.
جسدت الأساطير البابلية تصورها عن فكرة الخلق فذكرت أن المياه صُنعت من المادة الأولى وفي المياه انبثقت كل الكائنات عندما كانت المياه مضطربة مشوشة يختلط فيها: الماء العذب ماء الانهار العنصر المذكر الذي سميّ الإله أبسو والماء المالح ماء البحر العنصر المؤنث الذي إسمه تيامات، ومن اتحاد الماءين ولدت باقي الآلهة. انفردت الالهة تيامات بحكم العالم القديم (النظام الأمومي) ردحاً طويلاً من الزمن واتهمها المنافسون بالتناقض وتناوب الغضب والركود ، مما دعا أحد أبنائها الإله "مردوخ" ممثل العنصر الذكوري في الاساطير البابلية إلى إعلان التمرد على سطوة الانوثة وعزم على سلبها لوح المصائر ليحكم العالم، فنشبت بينهما معارك طاحنة . انتصر مردوخ الدموي على سيدة المياة المالحة وشقها الى نصفين وخلق من نصفها الأول السماء ومن نصفها الثاني الأرض ومن عينيها (أجرى نهري دجلة والفرات) ومن أنفاسها صنع الغيوم والمطر.
هكذا تصور الرافدينيون الأوائل: ماء النهرين، ماء الحياة يتدفق من عيني الأم الكبرى دموعاً تروي السهول وتملأ الأهوار والارض بالخير العميم، ويحتفظ ماءا النهرين بصفاتهما ومذاقهما ولونهما وكثافتهما حتى ينتهيا ممتزجين بمياه البحر الجنوبي.
قبل أن يجتمع النهران يجتازان المستنقعات كل في مجراه ثم يتقاربان ويتجاوران ويشكلان شط العرب عند قرية الكرمة غير أنهما لايمتزجان لمسافة طويلة، فنهر دجلة الذي اسماه الرافدينيون القدامى (دكلاتو) نهر عميق يميل لونه الى الزرقة غالباً وبه غموض أنوثة وفيض عطاء وجموح وحالات غضب طوفاني ، ولم يمنع غضبه الدائم أن تشيد المدن الكبرى وتتعانق حضارات الأمس على ضفافه. أما الفرات الذي دعاه الأكديون "بوراتو" وأسماه الآراميون "فروت"، فهو النهر السخي الواسع ذو السمات الذكورية الذي أسمته الأقوام القديمة (النهر الكبير) وقامت حضارات سومر وأكد وبابل والحضارة الحثية على ضفافه، وورد ذكره في المدونات الدينية للأديان الابراهيمية والدين المندائي باعتباره نهراً مقدساً يتعمدون في مياهه. يحمل الفرات معه الغرين والاتربة التي يجرفها من السهول والمنحدرات فيكتسب لونه الغريني الأسمر المحمر، وعندما يلتقي النهران بعد سفر موحش يتعانقان فيولد مجرى شاسع، ونرى مشهداً عجباً: فهنا لايمتزج ماءا النهرين أبداً بل يحتفظ كل منهما بلونه المختلف: الفرات الطيني الأحمر ودجلة الرائق الازرق ويستمران متجاورين وهما يعبران البطائح ثم يشكلان شط العرب لينتهي مصيرهما إلى مياه تيامات المالحة في الخليج .
مثل النهرين العاشقين المتفردين ومثل العشاق الحكماء في تميز شخصياتهم وفرادتها، نميز عناصر كل مجتمع حي باختلاف خصائص الأعراق والديانات واللغات فتثرى ثقافته بتنوع الثقافات المتناغمة وترتبط العناصر المختلفة بمصير واحد دون أن تتخلى كلٌ منها عن خصائصها وتقاليدها، فلا يذوب عنصر أو عرق أو دين في الشكل الكلي للمجتمع، وعندما ترغم المكونات المتعددة على اتخاذ نمط حياة واحد وتهيمن ثقافة واحدة يفرضها الحكام المستبدون فسوف ينتج عن ذلك القسر مجتمع هجين بائس بلا ميزات ولاخصائص ويصبح عرضة للتفجر وردات الفعل التي تزلزل ثباته وتعيق تطوره.
النهران وأمثالهما يلتقيان ويحتفظان بفرادتهما
[post-views]
نشر في: 12 أغسطس, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...