TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > النهران وأمثالهما يلتقيان ويحتفظان بفرادتهما

النهران وأمثالهما يلتقيان ويحتفظان بفرادتهما

نشر في: 12 أغسطس, 2017: 09:01 م

مثل العشاق العظماء الذين يدركون أهمية الحفاظ على حدود شخصياتهم المتفردة ولايحاولون تذويب شخصية المعشوق في ذواتهم وهم يديمون الحياة ويكاثرون البشر ويحفظون ذاكرة الانسانية، هكذا يفعل دجلة والفرات منذ ملايين الأعوام يلتقيان ويحافظان على اختلافهما ومثلهما أيضاً تبقى مكونات المجتمع الحي     الثري  بتنوعه وتحيا متجاورة ومحتفظة  بخصائصها ومظاهر ثقافتها.
جسدت الأساطير البابلية تصورها عن فكرة الخلق فذكرت أن المياه صُنعت من المادة الأولى وفي المياه  انبثقت كل الكائنات عندما كانت المياه  مضطربة مشوشة يختلط فيها: الماء العذب ماء الانهار العنصر المذكر  الذي سميّ الإله  أبسو  والماء المالح ماء البحر العنصر المؤنث الذي إسمه  تيامات،  ومن اتحاد الماءين ولدت باقي الآلهة. انفردت الالهة تيامات بحكم العالم القديم (النظام الأمومي) ردحاً طويلاً من الزمن واتهمها المنافسون بالتناقض وتناوب الغضب والركود ، مما دعا أحد  أبنائها الإله "مردوخ" ممثل العنصر الذكوري في الاساطير البابلية إلى إعلان  التمرد على سطوة الانوثة وعزم على سلبها لوح المصائر ليحكم العالم، فنشبت بينهما معارك  طاحنة . انتصر مردوخ الدموي على سيدة المياة المالحة وشقها الى نصفين وخلق من نصفها الأول السماء ومن نصفها الثاني الأرض ومن عينيها  (أجرى نهري دجلة والفرات) ومن أنفاسها  صنع الغيوم والمطر.
هكذا تصور الرافدينيون الأوائل: ماء النهرين، ماء الحياة يتدفق من عيني الأم الكبرى دموعاً تروي السهول وتملأ الأهوار والارض بالخير العميم، ويحتفظ ماءا النهرين بصفاتهما ومذاقهما ولونهما وكثافتهما حتى ينتهيا ممتزجين بمياه البحر الجنوبي.
قبل أن يجتمع النهران يجتازان المستنقعات كل في مجراه ثم يتقاربان  ويتجاوران ويشكلان شط العرب عند قرية الكرمة غير أنهما لايمتزجان لمسافة طويلة، فنهر دجلة الذي اسماه الرافدينيون القدامى (دكلاتو) نهر عميق يميل لونه الى الزرقة غالباً وبه غموض أنوثة وفيض عطاء وجموح وحالات غضب طوفاني ، ولم يمنع غضبه الدائم أن تشيد المدن الكبرى وتتعانق  حضارات الأمس على ضفافه. أما الفرات الذي دعاه الأكديون  "بوراتو" وأسماه الآراميون "فروت"، فهو النهر السخي الواسع ذو السمات الذكورية الذي أسمته الأقوام القديمة (النهر الكبير) وقامت حضارات سومر وأكد وبابل والحضارة الحثية على ضفافه، وورد ذكره في المدونات الدينية للأديان الابراهيمية والدين المندائي باعتباره نهراً مقدساً يتعمدون في مياهه. يحمل الفرات معه الغرين والاتربة التي يجرفها من السهول والمنحدرات  فيكتسب لونه الغريني الأسمر المحمر، وعندما يلتقي النهران بعد سفر موحش يتعانقان فيولد مجرى شاسع، ونرى مشهداً عجباً: فهنا  لايمتزج  ماءا النهرين أبداً بل يحتفظ كل منهما بلونه المختلف: الفرات الطيني الأحمر ودجلة الرائق الازرق ويستمران متجاورين وهما يعبران البطائح ثم يشكلان شط العرب لينتهي مصيرهما إلى مياه تيامات المالحة في الخليج .
مثل النهرين العاشقين المتفردين ومثل العشاق الحكماء في تميز شخصياتهم وفرادتها، نميز عناصر كل مجتمع حي باختلاف خصائص الأعراق والديانات واللغات  فتثرى ثقافته  بتنوع  الثقافات المتناغمة  وترتبط العناصر المختلفة بمصير واحد دون أن تتخلى كلٌ منها عن خصائصها وتقاليدها، فلا يذوب عنصر أو عرق أو دين في الشكل الكلي للمجتمع، وعندما ترغم المكونات المتعددة على اتخاذ نمط حياة واحد وتهيمن ثقافة واحدة يفرضها الحكام المستبدون فسوف ينتج عن ذلك القسر مجتمع هجين بائس بلا ميزات ولاخصائص ويصبح عرضة للتفجر وردات الفعل التي تزلزل ثباته وتعيق تطوره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram