اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > رواية من نفق الحاضر

رواية من نفق الحاضر

نشر في: 13 أغسطس, 2017: 09:01 م

 

الألمُ ينهض بالرواية العراقية. والألمُ يمنحُ هذه الرواية شحنةً استثنائية تدفعها باتجاه التغريب، الذي يليق وحده بما حدث، وما سيحدث. إن الأملَ فيها مُطفأٌ، ولذلك تحلق طليقةً داخل ظلمةٍ، لا أعرف عن يقين، إذا ما كانت ظلمةَ التاريخ، أو ظلمةَ الروح. هذا انطباع لملمتُه من تحت خطى ما قرأتُ من روايات عديدة، الكاتبُ فيها هو المتحدث، والمتحدثُ فيها هو الضحية. ما من حبكةٍ، ولا نمو شخصية، يمليهما فاصل مُفترض بين الكاتب وبين الموضوع. بل هي يوميات ضحية مُصابة بالحمّى، ولا تريد أن تُصغي لقارئ. إنها تتحدثُ لأصم، وتعرضُ صورتها لأعمى، وتصرخُ في عمق ماء المحيط. إنها لم تخرج من عراقيي المنفى، العائمين في زمن الفقدان. بل من عراقيي الزمن الأرضي، الماهر في أفانين القمع، والاغتيال، والتعذيب، وحرب المدن، وحرب الجوار، والتهجير، والملاحقة، والتمثيل بالجسد الذي قُتل، ويُقتل آلافاً من المرات.
أنهيتُ قراءة "مسامرات جسر بزيبز" لشاكر الأنباري (منشورات دار المتوسط 2017)، بعد أن أوشكت على الانتهاء من قراءة "خضر قدْ والعصر الزيتوني" لنصيف فلك. كما أني سبق أن قرأت "الأشباح والوهق" لسليم جواد وكتبت عنها. وفيما تصطنع الأخيرتان جحيماً سفلياً بديلا، تكتفي الأولى بالجحيم الأرضي.
الجحيمُ الأرضي، التاريخي، في رواية شاكر يتوزع بين أزمنة ثلاثة: زمن القرية أيام الصبا الأول، وزمن الهرب مما لا مَهرب منه، وزمن كتابة الرواية في أربيل التي تبدو مُستقراً مؤقتاً، لا زمن فيه؛ هنا أُنهك زمنُ الانسان العراقي، وخرج عن دائرةِ الساعاتِ والأيام والأسابيعِ والشهور. حين ينعدم المستقبلُ لا يعود الزمنُ زمناً. ولذلك يبدو زمنُ القرية أشبه بنافذة ضوء تُطل من جدار في قبو معتم، أو في نفقٍ لا إضاءة في نهايته، هما قبو ونفق الحاضر. ضوء نافذة يُكثّف الروائي من قوته، كضوء نافذة في لوحة لرانبرانت، من أجل أن يُجسد، بحكم حدة التعارض، تفاصيلَ الحاضر. زمن القرية خيرٌ كله، على ما فيه من بساطة وبدائية. يتخيل الراوي صورةَ عمه رشيد التي اندمجت " برملِ النهر وسنابلِ القمح ونداءِ الطيور في أول يقظتها صباحاً، وتشظّتْ بين الدروب المسوّرةِ بالشوك والعاقول، وبين عذوقِ النخيل وأعشاشِ الطيور وزخّاتِ المطر، وهي تضرب سطحَ البيوت، وأفواهَ التنانير، وأغصانَ أشجار اليوكالبتوس." في حين يتكدس الحاضر شراً كله، فحين يأتيه خبر مقتل أخيه مساءً، في حاضر الزمن القبو أو النفق الذي لا منفذ فيه: ".. جاء إلى بيوتنا مثل غمامةٍ سامة.. مثل صاعقةٍ شتوية. نزل مثل مياهٍ ساخنة في صيفٍ حار. مثل انفجار مهولٍ في ليلةٍ مقمرة. مثل فيضان النهر في شتاء ممطر. مثل بصقة هاطلة من سماء صاحية. مثل منجل في ساق شجرة الرمان. مثل طلْق مُخفق لامرأة شابة".
في الرواية وفرةُ حياة من كل نوع: وفرةُ الشخوص، من أجدادٍ وآباءٍ وأبناءٍ وأحفاد، على امتداد عمر الراوي الذي بلغ خمسين عاماً. على أن وفرةَ الطبيعة الفلاحية في قرية صغيرة على نهر الفرات، ووفرة أصناف أزهارها البرية، وأنواع حبوبها وبقولها، وثمارِ أشجارها، ووفرةِ أشياء الحياة اليومية داخل البيوت وخارجها، تكاد تقتصر على مرحلة الصبا في الزمن الماضي. والراوية يحتفي بها بغنائية عالية في حكايته، حتى لتكاد تبدو للعين مهرجانَ ألوانٍ وأصوات. وبقدر ما نبتعد عن نافذة الماضي المضاءة، بقدر ما يُعتم نفق الحاضر. وعبر عتمته تصحب بكل كيانك مشاهدَ ذعر الوجوه ونشافها، وتشظي الأشلاء بفعل العبوات الناسفة، وأشباح رتل الدبابات الخرساء، ورتل البشر الهارب. الرواية بالغة الغنى بهذا، وهو مصدر أساس في تأثيرها. بالرغم من أن النثر في تدفقه يبدو غير متماسك كفاية، وأن الراوي، وسط عائلة تتزاحم أسماؤها وأعمال أرزاقها، لا يتّضح له اسمٌ ولا عملٌ لرزقه. إلا أنها ثغرات لا ثقل لها وسط تدفق المشاعر والأحداث. رواية تستحق أن تُقرأ.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram