أتمنّى أنْ يكونَ وجودي منفذاً صغيراً يبثُّ لحياتِكَ الضوءَ والسعادةَ
قلبي يريدُ أنْ يصغرَ بحجمِ طيرةٍ ثمَّ يحلّقُ ليأتيَ بقربِكَ.فروغ«أتمنّى أنْ يكونَ وجودي منفذاً صغيراً يبثُّ لحياتِكَ الضوءَ والسعادةَ»(1)، كتبت (فروغ) هذه الج
أتمنّى أنْ يكونَ وجودي منفذاً صغيراً يبثُّ لحياتِكَ الضوءَ والسعادةَ
قلبي يريدُ أنْ يصغرَ بحجمِ طيرةٍ ثمَّ يحلّقُ ليأتيَ بقربِكَ.
فروغ
«أتمنّى أنْ يكونَ وجودي منفذاً صغيراً يبثُّ لحياتِكَ الضوءَ والسعادةَ»(1)، كتبت (فروغ) هذه الجملة في رسالة بعد انفصالها الرسميّ من زوجها وما كانت تعرف أنّ وجودها لم يكن منفذاً بل نوافذ مشرعة سيفتحها العشّاق ويتداولون ما كتبته في رسائلهم وخطاباتهم الغراميّة، لكنّ – على حدّ قولها – إبليس الشعر قد سحبها من يدها الملطّخة بالحبر وبات الشعر عشّاً للطيور في يديها(2).
(فروغ فرخزاد)، بدأت في سنّ مبكّرة كتابة الشعر الغنائيّ بمواضيع رئيسة كشكوى بين المحبّين أو معاناة امرأة شرقيّة تناجي الرجل الذاهب، الظالم، اللامبالي، وردّاً على ما قيل عن النوع الأوّل الذي كتبته قالت: «إنّ الكلمات حتّى وإن كانت أدوات الشاعر ليست مهمّة بقدر المحتوى وإن تكن المفردات مكرّرة إلا أنّها فوران عشق كان مؤثّراً بالنسبة لي في تلك الحقبة»، (فروغ) لم تكن مع مصطلح الشعر الحديث والقديم بل الشعر هو ذاته في كلّ العصور، لكنّه يختلف من جيل إلى آخر والفرق – فقط – في المسافات الماديّة بين العصور، فالشاعر الذكيّ يجب أن يواكب عصره ويتّخذ معاناة الفترة التي يعاصرها مصدر إلهام لإبراز طاقته على كشف الحقائق المختبئة وإشهار الظلم والزيف، كما تعتقد أنّ فعل الفنّ هو بيان لإعادة ترتيب الحياة، والحياة لها ماهيّة التغيّر والتوسّع والنموّ، بالنتيجة البيان أو الفنّ في كلّ فترة له روح خاصّة به وإن كان عكس ذلك فهو مزيّف ومقلَّد.
***
تقول الشاعرة: «إنّ عالمي – مثلاً – يختلف – تماماً – عن عالم (حافظ الشيرازيّ) أو (سعدي) حتّى يختلف عن عالم أبي، طريقة تلقي الشاعر والقارئ في فهم مفاهيم عدّة كالعشق والشجاعة والمعتقدات تختلف عن الأمس»، وتذكر مثالاً عن (مجنون) في الأدب: «إنّ مجنون هو أيقونة للعشق وفداء المحبوب في قصائد العصور الماضية»، اليوم – على حدّ رأيها – تغيّرت هذه الرؤية، فبتحليل الأطبّاء النفسيّين شخص (مجنون) مريض يحبّ أن يكون تحت سيطرة معاناة دائمة خاضعاً للعذاب غير ساعٍ للحريّة(3).
(فروغ) في الشعر تستخدم أقسى المفردات وأبشعها وتقول: «إن كان وجود المفردات الصادمة ضروريّ على الشاعر استخدامها حتّى وإن لم تُتداول كهذه المفردات في الشعر من قبل»، كما تؤكد: «إنّ البلاغة ليست كافية، الشعر الحديث يجب أن يحتوي على لسان حيّ، لسان عارٍ غير رؤوف ومتجانس بكلّ اللحظات التي نعيشها»، كما تذكر أنّها لم تسلم المفردات للوزن في الشعر بل تسلم الوزن للمفردات وتتخلّص من الزوائد، تذكر – أيضاً – : «على الشاعر أن يكفّ عن كتابة المدح أو تقديم النصائح والمواعظ أو اتّخاذ دور القائد والمرشد، الشعر الحديث خرج من قول الكلّيات وبات قريباً من الروح الإنسانيّة ومن الفن ذاته، إذن.. هي – ومن خلال اكتشافها هذه الأسرار كما باستخدامها الحوار والمخاطبة في الشعر – خلقت نمطاً جديداً في الشعر الفارسيّ الحديث آنذاك.
عرفنا (فروغ) بـ(الشاعرة المتمرّدة)، من أين جاء هذا التمرّد؟ تقول لزوجها في إحدى رسائلها: «لا أعرف أن ألجأ لمن كي أقتل الماضي، أنت يحييك الله في قلبي»، لم يكن التمرّد يمنعها كي تخضع لحضن الحبيب وتخبره أنّه نصفها الثاني، لم يكن التمرّد ولا الشعر – الذي وصفته بآلة تمتصّ الدماء – مهمّاً لها بقدر العشق، لكنّه العشق ذاته في ديوانها الأخير بات سبباً للدمار.
إذن.. الخذلان ومحاربتها كامرأة شاعرة صنع منها متمردة لتحطّ رحالها مسرعة من مدينة إلى أخرى والقلم والورق يرافقانها لتنجز أكبر عدد ممكن من الدواوين في فترة حياتها القصيرة، ولن تنسى هذه المرأة عدّ المبالغ الماليّة القليلة التي تحصّلها من نشر الشعر في الصحف والمجلّات لتوفير درّاجة هوائيّة لابنها، أو لتشتري مفرشاً من البلاستيك لتغطّي أرضيّة بيتها الصغير، كأنّها بيديها تريد التشبّث بالحياة وتذوّق طعم السعادة كأيّ امرأة عاديّة، ولم تحصل على قليل من تلك السعادة إلّا في طيّات الورق.
عن شعرها كُتبت كثير من المقالات والتحقيقات بعدّة لغات، من يكتشف عوالم (فروغ) سيتعرّف على أنثى ناضجة ملتهبة العشق مرّة، ومنبوذة من البيت الزوجيّ مرّة أخرى، وشعرها الحرّ المتمرّد الذي كان حديث المثقّفين والقراء مرّات ومرّات، وهي كاشفة عن الأقنعة في مجتمع بأناس فارغين متخمين بسعادات وهميّة، وبالصدمات التي حفّزت قواها استطاعت أن تؤثّث عالماً مختلفاً بلغتها السلسة وأدواتها الخاصّة وتركيب جملها الشعريّة في مجتمع تعرف المرأة فيه – فقط – عن الرجل صوت السوط في النهار والاختباء تحت عباءة في الليل!
تأتي (فروغ) الشاعرة لتختار أن تركّب المفردات لتكوّن قصيدة تعرّي الزائف أمام زيفه وأمام الملأ، فالتي تختصر عنوان مجموعتها الشعريّة الأولى بـ(الأسيرة) تعي تماماً في أيّ مجتمع تعيش وما مكانة المرأة فيه.
***
(فروغ فرخزاد) هي أوّل امرأة في تاريخ الشعر الفارسيّ استطاعت أن تكتب بمطلق الحريّة مستخدمة أقسى العبارات تطلقها دون الرجوع للعقائد المكتسبة الموروثة، بل تأخذها من صدى الطبيعة الخالصة في قلبها وحسّها الوجدانيّ وهذا النبع المتدفّق الداخليّ فيها خلق طرقاً جديدة لهويّة الشاعرة في الأدب الفارسيّ.
في أولى مجاميعها الشعريّة يدخل القارئ مغارات الفقد الغريب، الانتظار الموحش، الحبّ العذريّ المفعم بالعذاب الطويل في مجموعتها الشعرية الأولى (الأسيرة)، ثمّ الثانية (الجدار) المجموعة التي جسّدت خلالها معاناتها بالأسر من وراء الجدار.
ثمّ تدخل في نقطة تحوّل واضحة بعيدة عن التخيّلات الشاعريّة فتضع (العصيان) عنواناً جديداً لمجموعتها الشعريّة الثالثة تاركة حزن العبودية وخريف العقول الفارغة لتدخل مملكة الشعر هنا من باب صريح قديم قدم الثورات التي تحصل لها ولمجتمعها، (العصيان) أدخلها إلى عالم جديد بمجموعة رابعة بعنوان: (ولادة أخرى)،العنوان واضح يظهر فكراً جديداً وتصويراً للهويّة العامّة، للحضور النسويّ العامّ أمام مجتمع تقليديّ حامل للمرأة الشاعرة أو المتمرّدة مطرقة الكفر والتحقير.
لكنّها ليست خاضعة له، وإن كسرها الحبيب بأخذ مولودها الوحيد تحاربه بتبني طفل وجلبه معها إلى البيت الأبويّ، ليس هذا الموضوع بعيداً عن مهنتها كشاعرة بل الخلق الإنسانيّ متجسّد في كلا الجانبين.
***
الفرديّة هي إحدى أهمّ النقاط التي تمتلكها الشاعرة في مجمل قصائدها، الصفات الإنسانيّة أيضاً هدفها الصريح، (فروغ) بملامح قصائد جديدة مختلفة تجسّد ثقل ما تعانيه تضع بولادة أخرى لمحة حزينة ساخرة من التاريخ بمضمون قصيدتها: (أيّها البلد الثمين)، هنا تعتلي رؤية الشاعر بحدود أكبر ممّا تناولته سابقاً لكنّ الرجل ما زال يتنفّس ببطء في مفاصل قصائدها وتحمل له عبارات جديدة غير خاضعة له هذه المرّة! تتساءل: «كيفَ يمكنُ للرجلِ الذي يعبرُ بثقلٍ وصبرٍ وصمتٍ وضياعٍ أنْ نأمرَهُ بالوقوفِ؟! وأنْ نقولَ لَهُ إنَّهُ لمْ يكنْ حيّاً أبداً؟!... «هذه المواجهة حقيقيّة و صادمة للرجل، تأتي بعد مرور أعوام بكلّ صراحة وبؤس لتبدأ بانتقاده في قصيدتها المعروفة: (فلنؤمنْ بطليعةِ الموسمِ الباردِ) لتخبره أنّه يضعها تحت البحار والأسماك تأكل من لحمها» وهي ربّما إشارة للبشر الطمّاع! وهي التي «تكره الأقراط صدفيّة الشكل» أيّ متعلقات تلك الجماعة المستغلة.
لدى (فروغ) في هذه القصيدة مصارحة واقعيّة، فتذكر والدتها في الواقع أيضاً إذ طلبت (فروغ) أن ترسل للصحف التعازي وتخبرهم بوفاتها، كما تذكر بقصيدتها معلنة أنّ كلّ شيء قد انتهى وقد فات الأوان!... إنّها نبوءة بالموت، وتستقبله روحها الشاعرة قبل وفاتها بأيّام على الأسطر بكلّ رحابة.
***
(فروغ) في ذلك العصر وسمت على جبين الورق هويّتها كشاعرة ضدّ المتعصّب والخانع والظالم والمتناقض ربّما بكشف هذه الحقائق تجلّى اسمها عالميّاً لتكون شاعرة لا تنسى الطير الذي نصحها (أن لا تنسَ التحليقَ)، التحليق الذي أوصل صوتها لنا بدواوين ترجمتُها للعربيّة بكلّ أمانة وحبّ.
****************
مقدمة كتاب
(أوّل نبضات حبّ لقلبي)
كتب هذه المقدّمة: عمران صلاحي (الكاتب والمترجم ورسّام الكاريكاتير الإيرانيّ الشهير) في كتاب جمع فيه رسائل (فروغ) إلى زوجها (برويزشابور)، كما ساعده في تجميع هذا الكتاب: (كاميار) ابن الشاعرة (فروغ فرخزاد)، والكتاب بعنوان: (أوّل نبضات قلبي العاشق) عن دار (مرواريد) في طهران.
عزيزي (كامي) ..
في الوقت الذي كتبت (فروغ) رسائل إلى (برويز) ما كانت تفكّر أن يأتي يوم وفضول يحشر رأسه فيها، رسائل كُتبتْ أحياناً بخوف وارتجاف وقلق وحبّ لتصل إلى يدَيِ المتلقّي.
في هذه الأيّام انتهت عادة كتابة الرسائل الورقيّة، من الآن ولاحقاً، بدل الكتابة على الورق علينا أن نحدّق على شاشات الهواتف والايميلات والفاكسات، برأي أيّ واحدة من هذه الوسائل لا تأخذ مكان الرسائل الورقيّة، الأشياء المخفيّة لها شعور أجمل..رسالة تُكتب بخوف ورعشة وشوق ولهفة وتُقرأ في مكان بعيد عن الأنظار، أن ترفع يدك نحو الضوء، لتقصّ المكان الصحيح من الغلاف حتى لا تتمزّق الورقة، تفتحها بحذر وتعيد قراءة أسطرها سطراً وراء سطر لتنثّ من كلّ كلمة عطر المحبّ.
قلت «فضول».. هل تعلم أنّ هذا الفضول كان يسكن جوار بيتكم قربك أنت قرب فروغ وشابور، عشتُ سنوات عديدة هناك، وعائلتي ما زالت تعيش هناك، أتذكّر.. كانت في الشارع الذي نسكن فيه مدرسة باسم (سروش)، هذه المدرسة كانت تدرس فيها فروغ، كنّا صغاراً نلعب في الشارع، وكنّا نسمع أنّ هناك فتاة ترجع كلّ يوم من المدرسة تعبر الشارع بجدائلها المفتوحة، كانوا يقولون أنّها تكتب الشعر!..
فروغ في رسائلها تذكر الأماكن بدقّة، أنا أعرف هذه التفاصيل وأفهم فضاء شعر فروغ من الداخل.
في عام 1945 التحقتُ في العمل بجريدة (توفيق)، هناك تعرّفت على شخص عالي المقام (برويز شابور)، في ذلك الوقت.. ما كنت أعلم صلة برويز بفروغ، مرّة.. سألني برويز عن رأيي بفروغ، وأنا بصدق أجبته وإجابتي أعجبته جدّاً، ثمّ سألني عن (أحمد شاملو)، قلت له.. إنّني لا اعرفه، وفي اللقاء الثاني جلب لي معه كتاب لـ(شاملو) بعنوان: (العشق الجديد/ هواى تازه) الذي قرأته في ليلة واحدة ثم عرفت من هو شاملو.
شاملو كان يأتي للقاء برويز في مكتب الجريدة في شارع اسطنبول، لكن في ذلك الشتاء – أقصد العام الذي توفّيت فيه فروغ شابور – غاب عن الأنظار شهراً كاملاً، حتّى أنّه لم يحضر مراسيم الدفن والتشييع، وفي ذلك الوقت كان له الحقّ بذلك لأنّ الصحافيّين والإعلاميّين كانوا يملأون المكان..
مرّة.. شابور طلب منّي أن نذهب إلى بيتنا في (الجواديّه)، ركبنا وبدأت أمتّع نظري بكلّ الأماكن التي نعبرها، عبرت المركبة شارع (أميريه)، شابور طلب منّي أن ننزل في التقاطع ونكمل الطريق سيراً على الأقدام، مشينا في كلّ تلك الشوارع والأزقّة، شابور وقف قرب بيت وأشار إلى نافذة صغيرة وقال: إنّ فروغ كانت تقف وراءها، وهو كان يعبر أمامها باستمرار، وأشار إلى باب البيت، قال: هنا رأيت فروغ أوّل مرّة وفي هذا البيت طلبت يدها.
عزيزي كامي.. كنتُ صديق والدك لثلاثة وثلاثين عاماً، وعكس الجميع لم أسأل والدك عن فروغ يوماً، لكنّه في بعض الليالي كان يحكي لي ويشرب نخبها، لم يزل صوت شابور في أذني، كان يطلب منّي أن أقيّم عشق فروغ له وعشقه لفروغ!، شابور كان يحبّها كثيراً، وهي كانت تعشقه حتّى بعد انفصالها عنه عشقته أكثر من السابق.
الأعمال الشعرية الكاملة فروغ فرخزاد.. اصدار دار المدى 2017