قبل تسعين عاماً، وبالضبط في مثل هذا اليوم من 23 آب 1927 ، في يوم إعدامهما، في سجن تشارلستون ستيت، في ولاية ماساشوسيتس، طوقت عشرات الدبابات مبنى السفارة الأميركية في باريس، لحمايتها من هجوم آلاف المتظاهرين المحتجين، بينما حطمت الجموع البشرية الغاضبة في جنيف كل ما كان يبدو أميركياً، في الوقت نفسه سقط في ألمانيا ستة أشخاص في المسيرات الاحتجاجية التي خرجت هناك. في أميركا، وبالذات في تشارليستون، مكان إعدامهما، فقد سُدت كل الطرق المؤدية للسجن، وأغلقت الجسور التي تقود للمدينة. كانت المدينة منقطعةً عن العالم. وعلى سطوح البنايات المجاورة للسجن، أنتشر مئات المسلحين وقفوا هناك، ممسكين رشاشاتهم، على أهبة إطلاق النار. أما في المدن المجاورة، بوسطن مثلاً فقد أطالت محطات الراديو أوقات بثها المعتادة، وكان على المدينة أن تلحق عشرة كيبلات إضافية لرجال الصحافة العالمية الذين قدموا من أنحاء العالم في يوم الإعدام. في منتصف ليلة ذلك اليوم دخل نيكولا ساكو غرفة الإعدام. عندما أراد الحراس تقيده، صرخ، بصوت عال: "تعيش الفوضوية!" ثم ليعقبها بصرخة أخرى بنفس القوة: "تعيش أمي"، ضغط بعدها حراس غرفة الإعدام زر تشغيل الكرسي الكهربائي. أما زميله بارتولوميو فانزيتي فقد سمر نظراته أولاً باتجاه الكرسي الكهربائي وقال بصوت حزين، منكسر: "لم أرتكب أية جريمة أبداً، صحيح أنني ارتبكت بعض الآثام، لكني لم أقم بأية جريمة"، ثم صافح الجميع. فانزيتي مات باكياً.
مئات آلاف المتظاهرين في ست قارات، خرجوا محتجين للشوارع، ستة ملايين في كل العالم، كانوا على قناعة بأن ساكو وفانزيتي، كانا بريئين، وأن ما حدث هو فضيحة كبيرة لاغير، أنها أكبر عملية قتل "قانونية" تحدث في تاريخ أميركا، وكان يجب أن يمر خمسون عاماً، لحين مجيء المحافظ السابق لولاية ماساشوسيتس، ميشائيل دوكاكيس، لكي يرد الاعتبار لساكو وفانزيتي، أمر بإعلان القداس بمناسبة يوم إعدامهما. بالتوازي مع ذلك، قادت تحريات خاصة طويلة لنوعية الطلقة القاتلة، ومن أطراف حيادية عديدة، لتثبت بأن "الطلقة رقم 3" التي أُطلقت في حادث سرقة الرواتب التي جرت في أبريل/ نيسان 1920 في منطقة "برينتري" جاءت من مسدس نيكولا ساكو، وأن بائع السمك بارتولوميو فانزيتي لم تكن له علاقة بما حدث، لأنه كان في ذلك اليوم يفعل ببساطة، ما يفعله دائماً: كان يبيع السمك في حارة "بلايموث".
أنها ليست فقط قضية الإعدام بالكرسي الكهربائي، ولا قضية التناقضات التي حولت القضية إلى "القضية التي لن تموت أبداً". أنها حالة نموذجية في تاريخ القضاء الأميركي، فلا قضية الحكم بالإعدام على "موميا أبو جمال"، ولا حتى إعدام الزوجين المتهمين بالتجسس "الذري" لحساب الروس، "أتيل ويوليوس روسينبيرغ" عام 1953، استطاعا زعزعة الثقة بنزاهة القضاء الأميركي، أبداً، ليست هناك قضية أخرى مثلها منحت اليسار الأميركي الدليل القاطع على انحياز القضاء في أميركا، طبقياً وعنصرياً. مثقفون مثل أوبتون سينكلير وجون دوس باسوس، وجون بايز، وعشرات فنانين آخرين تبنّوا قضية ساكو وفانزيتي، واعتبروهما شهيدين، بسبب أصلهما، لأنهما مهاجران إيطاليان وفوضويان معروفان، الأمر الذي قاد لإعدامهما بيد شرذمة عنصرية.
حتى اليوم نقرأ التعليقات "اليسارية" التي تثير القضية التي تسمح أكثر من غيرها بتشريح الحياة الأميركية من جديد، وتضع نظامها الاجتماعي وسياسته موضع الشك، البعض يتساءل: إذا كانت القوانين المضادة للإرهاب في أميركا في الوقت الحاضر، لا تختلف عن القوانين الماضية، وهل سيأمل ساكو وفانزيتي بمحكمة عادلة في مثل أيامنا؟ منذ تلك الليلة في تشارليستاون وهناك انقلاب في الجو السياسي ـ ما زال مسيطراً لليوم.