TOP

جريدة المدى > تحقيقات > حديقة غازي في الناصرية رحلة الإخضرار والذبول

حديقة غازي في الناصرية رحلة الإخضرار والذبول

نشر في: 23 أغسطس, 2017: 12:01 ص

يتصاعد طور ناصر حكيم ظهراً من بين أشجار اليوكالبتوس وشجيرات الياس مغمساً بعطر الجوري وماتبقّى من روائح كحول الليلة الماضية، يسمعه طلاب ثانوية الجمهورية المغادرون تواً الى بيوتهم فيرسلون مشاكساتهم الأخوية الى الحالم بالوصول الى دار الإذاعة (عناد حارس

يتصاعد طور ناصر حكيم ظهراً من بين أشجار اليوكالبتوس وشجيرات الياس مغمساً بعطر الجوري وماتبقّى من روائح كحول الليلة الماضية، يسمعه طلاب ثانوية الجمهورية المغادرون تواً الى بيوتهم فيرسلون مشاكساتهم الأخوية الى الحالم بالوصول الى دار الإذاعة (عناد حارس الحديقة) ليرد هذا عليهم بشتائم حميمة .عناد.. في هذا المربع الأخضر يغني دائماً وهو يتحرك على حافات السواقي وفوق المساحات المعشوشبة، بساق عرجاء كسرتها إحدى السيارات في الكويت، وبقلب بلون الحب، لكنه لايعلم أن تحت تراب المكان جثثاً اجنبية لاتفقه شيئاً من كلامه غير أنها تبكي بمرارة وألم لدى سماعها الآهات الحكيمية الملتاعة . هنا في هذه البقعة العراقية التي تفصلها عن شبه القارة الهندية بحار واسعة وصحارى شاسعة، قرر البريطانيون المنتصرون في الحرب العالمية الأولى أن يدفنوا قتلاهم الى الأبد بدون العودة بهم الى ديارهم .

حديقة ثاني الملوك ولكن ؟
فبعد المقاومة التي جابهوها من قبل السكان والقوات العثمانية، كثرت اعداد القتلى من جنود المستعمرات الذين ارغموا على حروب لا علاقة لهم بها،  ولأن التعالي الانكليزي لايضع هؤلاء المقاتلين الى جوار مقاتليه بالخانة الانسانية حتى وهم موتى، فقد جعلوا من هذا المكان الواقع شمال مربع المدينة القديم مقبرة للجنود الهنود  منذ عام 1914. إذا كان الغزاة يزرعون الموت دائماً في الأراضي التي يقتحمونها، فإن ارادة الحياة تعاندهم عقب كل جولة انتصار لهم وتعود لتزرع ورودها في الأمكنة ذاتها .
ففي أواسط ثلاثينيات القرن المنصرم، تحولت المقبرة الكئيبة الى حديقة عامة هي الأولى في مدينة الناصرية، سمّيت باسم الملك ذي العمر والحكم القصيرين (غازي) ابن فيصل الأول، أول ملوك العراق، ليثبت ذلك الاسم (حديقة غازي) منذ اكثر من ثمانين سنة بلا تغيير وهذه حالة غريبة في بلد تتغير فيه الأسماء مع إطلالة كل عهد سياسي جديد .
مساحة هذه الحديقة وموقعها لم يسمحا لها بأن تكون واحةً تحتضن العشّاق وهم يختلسون المواعيد الخاطفة السريعة في مدينة تريد العشق ولاتسمح به.  فعيون المارة وعيون البيوت المجاورة تخترقها من ثلاث جهات بسبب سياجها الخشبي الواطئ عند تأسيسها. وحتى عندما شهق ذلك السياج في فترة الستينات والسبعينات ظل العشاق بعيدين عنها .لكنَّ الطلبة المغامرين المطاردين من قبل عيون السلطات دائماً سمحوا لأنفسهم أن يجعلوا منها مكاناً لإقامة نشاطاتهم الخاصة حين يصعب عليهم الحصول على بيت يجتمعون فيه .

اجتماعات سياسية .. وجلسات خمرية
فقد كانوا يتخذون من مصاطبها الاسمنتية أو بعض مربعاتها المعشوشبة أماكن جلوس  غير آمنة.  حيث كان كل اربعة اشخاص أو خمسة (حسب عدد أعضاء الخلية) يختارون مصطبة معينة أو بقعة أرض،   وبحذر شديد وتلفت مستمر لايجلب الشك،  يحققون اجتماعاتهم الاسبوعية المفروض عليهم،  ثم يغادرون وهم متوهمون بأن عيون رجال الأمن كانت بعيدة عنهم ولم تصطادهم .ومثلما كان الطلبة (السياسيون)  يلوذون بهذه الحديقة نهاراً ثم يمضون عنها باحساس المنتصرين، كان السكارى المفلسون من الصعاليك والنشالين والعاطلين عن العمل يلتجأون اليها ليلاً، حاملين في اكياس من الورق (ربعيات) العرق الأسود أو الأبيض المشتراة من نادي الموظفين المجاور بمبلغ ستة دراهم، ليمارسوا رحلة الشرب السري الخائف هو الأخر من عيني عناد وعيون سيارة النجدة، ثم يغادر كل واحد منهم  مع معاناته  في آخر الليل وكل أمله أن تأتي ليلة أخرى غير هذه ليعاود السكر ثانيةً .
في زمن بساطة الناصرية ومحدودية مساحتها وقلّة سكانها، كانت مياه حديقة غازي رافداً يقتل عطش لاعبي كرة القدم ومشجعيهم  حين يهرع هؤلاء إليها من الساحة الترابية الوحيدة المجاورة  لها. فمياه حنفياتها يحمل في الصيف بعضاً من البرودة بسبب انابيبه المدفونة تحت الأرض بمسافة عميقة، وكثيراً ماجعلتها تلك الجيرة المكانية مكان انتظار لساعات طويلة يمارسه الجمهور الزاحف من الأقضية والنواحي مبكراً لمشاهدة المباريات المهمة التي يخوضها منتخب الناصرية  . وإذا كانت ساحة الكرة تجاورها من الجهة الشرقية، فإن الجهة الغربية لها كانت تحتوي سينما البطحاء الصيفي الباثّة عبر مكبّرات صوتها أغاني عبد الحليم ووردة الجزائرية وأم كلثوم، حيث تضفي هذه الأغاني جواً من الشاعرية على الفضاء الليلي للحديقة يبعث في نفوس جلاسها من غير السكارى نشوة مريحة  .
ودار السينما هذه  شهدت في اوائل السبعينيات حفلاً غنائياً للنجوم الشابة آنذاك وهم كل من ياس خضر وستار جبار وأنوار عبد الوهاب وحسين نعمة وآخرين من جيلهم ما جعل من سياج تلك الحديقة مجالاً لمن لايملكون النقود لكي يتسلقوه ويتابعوا  من خلاله ساعات الحفلة التي امتدت الى مابعد الثانية صباحاً.

مقبرة من جديد
لم تسلم حديقة غازي من تأثيرات جيب الحكومات عليها طبعاً، إذ كلما شحّت الأموال بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية المتكررة، تحولت الى مدينة ألعاب مصغّرة تستوعب أطفال الفقراء وأطفال ذوي الدخل المحدود، عندها تغيب صورتها الرومانسية بكل تفاصيلها، وتحل محلها صورة واقعية جداً تتشكل ملامحها من ضجيج وحركة ودوران دواليب وأغاني مسجلات تُبثّ بصوتٍ عال .
حينما حلّت حرب عام 1991 وانتفض الشعب العراقي ضد صدام ونظامه، عاد القدر الأول لهذه الحديقة وتحولت من جديد الى مقبرة لأجساد الشبان المنتفضين.  حيث قام أفراد الجيش الذي اكتسح المدينة بدفن عدد من الشهداء فيها بعد أن صمدوا أمامهم وقاتلوهم في شوارع المدينة بضراوة. إلا أن ذلك الدفن كان مؤقتاً ولم يستمر كما هو حال الهنود، حيث تولى أهالي هؤلاء الشبان أمر استخراجهم من هناك لاحقاً وأخذهم الى مقبرة وادي السلام .

القدر مرة ثالثة
غاب عناد حارس الحديقة خلال حرب الثمانينيات بدون أن يعرف الكثير من محبيه مصيره، وغاب معه طور ناصر حكيم ومقدمة أبو ذياته التقليدية (ل ل لالا) وجاء بدلاً عنه صوت المغنين المحليين الجدد وأغانيهم الصاخبة ليتعالى في خميس كل اسبوع  بفضاء الحديقة حين جعلوها مرة أخرى مدينة ألعاب في أواخر التسعينيات، وبينما كانت العوائل تعيش فرحة وجود متنفس يومي لأطفالها واسبوعي لكبارها ينقذها من كآبة الحصار وجفاف أيامه القاسية، اصبحت حديقة غازي على حين غرة مكاناً (يحرمُ ارتياده) بسبب شيوع الأغاني فيه وممارسات الفسق والفجور - كما قيل - فعاد الغبار مرة ثانية الى أرضها وعاد الافول الى زرعها وحلّت الوحشة فوق ممراتها  .
في سنة 2003 وفي أيام محاصرة المدينة من قبل الامريكان لمدة أحد عشر يوماً، وكعادتها في كل الحروب، تحولت حديقة غازي مرة ثالثة الى مقبرة للجثث البريئة التي لم يرتكب اصحابها أي ذنب سوى ذنب العيش في هذا الوطن، حيث اخترقت في أحد الأيام رصاصة مجهولة المصدر أحد الأمكنة في الناصرية واختارت رجلاً وحيداً كان يحتمي هناك وأردته قتيلاً. ولأن أهل الرجل غادروا المدينة قبل الحرب، ولأن الوصول الى المقابر لم يكن سهلاً في ذلك الوقت، فقد تم إيداعه تحت تراب الحديقة لحين عودة الهدوء . إن حديقة غازي وعبر رحلة الذبول والتألق التي قدّرت لها لاتزال موجودةً على قيد الحياة يتذكرها البعض أحياناً فيحولها الى مكان صيفي لإقامة الندوات الفكرية خصوصاً في ليالي شهر رمضان وتنساها الحكومة المحلية في أحيان كثيرة، فتتركها مجرد حيز من زرع ليس فيه جاذبية الزرع .لكنها رغم كل هذا لاتزال تواصل وجودها مُحافِظةً على وجوه الأشخاص والأحداث والتواريخ التي مرّت عليها، عصيّة على الموت رغم أن الموت قد تمّ زرع الكثير منه في أرضها، تنتظر من الذين يقدّرون الجمال أن يعيدوها الى واحة صغيرة فيها ورد جوري وأشجار نخيل وأشجار يوكالبتوس وصوت مغنٍ عاشق يكون امتداداً لفلاحها العاشق عناد .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟
تحقيقات

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟

 المدى/تبارك المجيد كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، والظلام قد بدأ يغطي المكان، تجمعنا نحن المتظاهرين عند الجامع المقابل لمدينة الجملة العصبية، وكانت الأجواء مشحونة بالتوتر، فجأة، بدأت أصوات الرصاص تعلو في الأفق،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram