الطريق الذي يفصل بين متحف مور وقلعة رورلو وسط هولندا، هو نصف ساعة بالسيارة، لهذا قررت بعد أن أنهيت جولتي في المتحف أن انطلق نحو القلعة. كانت الشوارع ضيقة وتحيط بها الأشجار، حيث تظهر مجموعة من القرى الصغيرة موزعة على جانبي الطريق، مع التماعات لبعض المقاهي التي تظهر هنا وهناك، مقاهٍ صيفية صغيرة جداً، تتسع كل واحدة منها لبضع طاولات وُضِعَتْ بحميمية وتستقر فوقها بعض الزهور على الطريقة الهولندية. وصلت الى مدينة رورلو، حيث مَدَّتْ يافطة صغيرة رأسها من بين الأشجار، لتعلمني بمكان القلعة. قطعت الطريق الضيق المرصوف بحجارة حمراء نحو هذا المكان التاريخي الذي تحول في الشهر الماضي الى متحف للفنان العظيم كارل فيلينك (١٩٠٠-١٩٨٣)، تقدمت نحو القلعة التي بنيت وسط بحيرة صغيرة، تحيط بها حديقة مترامية الأطراف، وقد بانت من بعيد مثل قطعة كيك لذيذة، أو تاج ملك يتلألأ انعكاسه على سطح الماء. بَدَأَتْ ملامح الجسر الزجاجي الصغير تتضح كلما اقتربت من المكان، هذا الجسر الذي يربط القلعة بالحديقة، حيث كانت خطوتي الأخيرة قرب الباب، الذي دخلته لأتمتع بسحر العمارة التي تعود للقرن السادس عشر، والأعمال الفنية التي ملأت المكان.
يعود الفضل في تأسيس هذا المتحف لجامع الأعمال الفنية الثري هاني ميلخرس، الذي يملك اعمالاً كثيرة للفنان فيلينك، وقد اشترى القلعة التي تعتبر واحدة من أشهر وأجمل قلاع هولندا التاريخية، وقرر أن يجعلها متحفاً للفنان الذي يعتبر مؤسس الواقعية الجديدة أو السحرية في هولندا. أعمال كثيرة ضمها المتحف التي ابتدأت أولى قاعاته ببورتريت شخصي رسمه فيلينك لنفسه وهو في الثامنة عشرة، حين كان يدرس العمارة، التي تركها واتجه لدراسة الرسم، وقد كتب لوالديه وقتها ( لقد قررت ترك العمارة ودراسة الرسم، وارجو منكما المعونة في ذلك). وقد احتوت هذه القاعة أعمالاً أخرى تعود لبداياته، حيث كان متأثراً بتجريدية كاندينسكي وتكعيبية بيكاسو، وفِي هذه المجموعة تَوَقَّفتُ امام بورتريت (فتاة مع قلادة الخرز) والتي رسم فيها (ميس فان در مولن) التي تقول في مذكراتها بإنه سألها عند أول لقاء بينهما، إن كان بإمكانه أن يرسم لها بورتريتاً، قبل أن يتزوجها وتصبح إحدى أيقوناته. أتجول بين قاعات المتحف لأرى التطور في اُسلوب الفنان وتأثير العمارة في فنه، وكذلك تحوله نحو اعمال فيها مناخات ومساقط ضوئية غامضة وظلال غير مألوفة ومنظور غريب، حيث رسم بعض النصب والتماثيل وسط شوارع المدن الخالية، وقد قدم ذلك كله برؤية وتقنية جعلته يخطو خطواته الأولى نحو الواقعية السحرية، وقد ظهر أيضاً في هذه الأعمال تأَثّرهُ بالفنان جيورجيو دي شيريكو، فقد زار كارل إيطاليا في بداية الثلاثينات وتعرف على اعمال هذا الفنان الشهير. مع ظهور جماعة كوبرا في نهاية الأربعينات، قَلَّتْ شعبية الرسام فيلينك، وانحسر الاهتمام بلوحاته، لكن بعد سنوات قليلة من ذلك، عادت الأضواء لتسلط على أعماله الخالدة التي أعادت للرسم سحره وللفن مكانته. انتهيت من رؤية الأعمال، ووقفت قرب النافذة انظر من الأعلى نحو هذا الهدوء الأخضر الذي يحيط بالمكان، حتى لاح لي في الجانب الأيسر من الحديقة مقهى جميل بطاولات ومظلات بيض. نزلت بسرعة لأنتقل الى هذا المكان الذي تَبَيَّنَ لي حسب ما هو مكتوب هناك، بأنه كان في القرنين الماضيين، مكاناً لعقد الزواج وإقامة الحفلات للعوائل الهولندية الغنية. طلبت فنجاناً من القهوة مع فطيرة صغيرة، وانا اشعر بأنني أكثر سعادة من كل الأغنياء الذين كانوا يتبخترون هنا بملابسهم الملونة، وذلك لأنني استطيع ببساطة أن استمتع بما يحيطني من جمال وفن، كذلك أعيش واتماهى مع التفاصيل الصغيرة في حياتي بمتعة لا يضاهيها شيء.
التماهي مع الجمال
[post-views]
نشر في: 25 أغسطس, 2017: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
لينا كنامة Ganama
شكرا للفنان ستار على نشر الثقافة