تمركزت الشفوية في الحضارات الشرقية، وسيلة تعبير عن اللحظة المقدسة وما ينطوي عليها من حضور الهي، لأن الكتابة في عتبتها الصورية هيمن عليها المقدس بواسطة العلامات الدالة عليه وظل متسيداً في الحياة والذاكرة الجماعية ولاحقاً أيضاً في الذاكرة الحضارية . وا
تمركزت الشفوية في الحضارات الشرقية، وسيلة تعبير عن اللحظة المقدسة وما ينطوي عليها من حضور الهي، لأن الكتابة في عتبتها الصورية هيمن عليها المقدس بواسطة العلامات الدالة عليه وظل متسيداً في الحياة والذاكرة الجماعية ولاحقاً أيضاً في الذاكرة الحضارية . واعتقد أن المقدس له حضور جوهري في الوظائف الشفوية التي تعددت رسائلها وتنوعت آليات التعبير بها ، اعتماداً على الصوت / الترديد الكلامي وأيضاً بواسطة ذاكرة الجسد مثلما قال " أيان اسمى".
الشفوية تريد لنظام مكون من كلام مقدس لأنه ـ الكلام ـ يومئ بوضوح ومباشرة الى الإله، ولذا اقترن الكلام بالمقدس، هو قاله وتميز به، وأضفى عليه ما يعدل قداسته الإلهية حتى العامة من الناس تتداول العلاقة بين الاثنين واعتبرت الكلام من خصائص الإله وبعد حقب طويلة حافظ على هذه الثنائية وتميز الكلام بوصفه من خصائص الله وهو وسيلة للقسم، بحيث صار الآن القرآن كلاماً لله . وتأتت القداسة للكلام من الوظائف الدينية، والعلاقة المستمرة بين الفرد والجماعة وكلام الله، عبر الطقوس وعناصر الديانة الشائعة، لذا يمكن اعتبار كلام الإله الأكثر حضوراً وتداولاً.
تشارك جلجامش البطل / الملك بخصائص إلهية مقدسة. ومن هنا ذهب جلجامش نحو فضاءات لم يفكر بها من قبل، وتطرف كثيراً في مزاولتها، وكانت سبباً في نشوء لحظة تحفظ وردود فعل ضدية وهي معروفة. إلا أن البطل لم يستطع حيازة ما نوفر للإله من خلود أبدي، ولم يختلف عن غيره من البشر في الفناء، على الرغم من أنه يكون من ثلثين اله وثلث بشري. كما أن تاريخه يمثل تاريخاً خاصاً بالجماعات، التي تتشارك معه. ومساعدته في امور عديدة، مهمة وضرورية ، كتمشية حركة المملكة والحفاظ على أنظمتها السياسية / الدينية / الاجتماعية والاقتصادية .
ذكر الباحث بور زومتور الى ضرورة اتخاذ خطوات تحليلية ولذا قدم أولاً للأشكال اللغوية ، ثم للأشكال الأخرى، كل على حدة .... مع الإقرار بادئ ذي بدء من اصطناع وما تحمله كل من هاتين المجموعتين من إنضاج، تحديداً بسبب أن إحداهما لا تستمد وجودها إلا من الأخرى .
أما عن الأشكال اللغوية، فسأتبنى منظورين متماثلين وهما:
1 ـ على مستوى النصوص الكاملة ومجموعات من النصوص. أي من منظور الأشكال العظمى، من فئة الأنماط و "الأنواع"
2 ـ أما من منظور الأشكال الصغرى "في نسيج القصيدة " التي يمكن تعريفها سواء على مستوى التركيبات المعجمية التراكيبية "الأسلوب" أو على مستوى مؤثرات المعنى "التيمات" وبخاصة تلك التي يتدخل في انتاجها عرف اجتماعي ما / م. ن / ص80//.
اما عن الأشكال غير اللغوية، فإني اجمعها تحت مسمى " اجتماعية، جسدية " اعني بتلك مجموع الملامح الشكلية أو الاتجاهات المشكلة الناتجة، من حيث أصولها أو أهدافها، عن وجود الجماعة الاجتماعية، من ناحية ومن ناحية أخرى، عن صور الجسد وخصائصه الحواسية، سواء الجسد المفرد فيزيقياً لكل من الأشخاص المنخرطين في الأداء، أو الجسد الذي يصعب تمييزه الا أن وجوده لا ريب فيه، جسد الجماعة ، كما يتجلى في ردود الفعل الوجدانية والحركات المشتركة / ن . م / ص80//.
قلنا سابقاً أن التاريخ كلمات وهي ذاكرة للحضارة، وإذا اقترنت بالجماعة فإنها تمثيل لهويتها وتظل متوارثة بين أفراد الجماعة ولن تسهم بصياغة ماضي الشعب الحضاري . الكلام طاقة الكائن / الفرد ، وهو بيت الوجود كما هايدجر للفرد أو للجماعة التي تضفي صفة القدسية عليه وتمنحه الطقوس صفة متسامية مثل الرقص وما يصاحبه من تصفيق وحركة الأطراف الأخرى ووضع الرأس بمكانه اللاعب الماهر.
الكلام مقدس قاله الكهنة بديلاً عنه وبتطور الديانات نحو التوحيدية تحول كلاماً له، هو الذي قاله مثلما في الإسلام وهو الذي تكفل تدوينه مثل الله في اليهودية، حيث سجل وصاياه على الألواح .
لم تكن الشفوية وسيلة للإعلان عن المقدس وتفعيل الذاكرة الاجتماعية المتمتعة بالطاقة والقوة ، لأن الجماعات تعتمد كلياً على قدرة الذاكرة الاجتماعية على الحزن والحفظ والمراقبة. ومثلما قال هولدرن " أننا حوار " وتبين أن وجود الإنسان يتقدم باللغة وفيها. الا أن هذه اللغة لا تكتسب حقيقة تاريخه إلا في الحوار. والحوار ليس مجرد طريقة تكتمل فيها اللغة، بكلمة " لغة " أي هذا النسق من الكلمات والقواعد التركيبية ليس سوى مظهر خارجي للغة / مارتن هايدجر / أنشاد المنادى / ت : بسام حجاز / المركز الثقافي العربي / بيروت / 1994/ ص59//.
الشفوية كلام ، وهي المانحة للكائن وجوده الحقيقي، لأنه عبر بها ومن خلالها عن إنسانيته وكشف عن طاقتها الخلاقة (أن تأسيس الوجود يرتبط بعلامات الالهة. لكن الكلام الشعري ليس سوى تأويل " صوت الشعب " غير أن هذا الصوت غالباً ما يغيبه الصمت ويخبو في ذاته، فهو غير قادر، بصورة عامة على أن يقول نفسه ما هو قائم فعلاً، ويظل في حاجة لمن يتولون تأويله ......).
أن الإنسان يحيا شعرياً على هذا الأرض / م . ن ص76// واستطيع التذكير بمقولات مشهورة لهايدجر حول الشعر مؤسسه الكينونة، وبذلك استعادته واضحة عندما قال إن اللغة مسكن الوجود، والشعر مضافاً لكونه مؤسسة الوجود فإنه الجوهر لكل الاشياء وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق، بل والقول الذي ينكشف من خلاله كل شيء، أي كل ما نتلفظ به وما تصوغه في لغة التخاطب اليومي . لذلك نستطيع أن نقول هنا أن الشعر لا يتلقى اللغة بوصفها مادة تكون في تصرفه لكي يعمل آليته فيها ، بل على العكس من ذلك، الشعر هو الذي يبادر الى جعل اللغة ممكنة / ن. م /ص65//.
تفويض مهم من الفلسفة للشعر وينطوي بعمقه على اللغة التي بايعها هايدجر وجعل منها تفاصيل الكائن ووجوده ، وأيضاً منحها طاقة وضف الأشياء ذات الانطولوجيا البدئية والتي لا نقوى على تجاهلها، لأنها رسمت للكائن بوقت مبكر كيفية يوسع مجال تشاركه مع الآخر ويعمق الاحساس بالتجاور الذي منح الكائن فرصة خلاقة للتحاور الذي أشار له هايدجر وأكد عليه وتبناه الشاعر هولدرن والذي أكد على أن الشعر وحده اللغة البدائية في عتبات التاريخ الحضاري وباعتباره تأسيساً للوجود. " والحال أن اللغة هي اخطر " الملكات " إذن لابد أن يكون الشعر هو " العمل " الأكثر خطورة ، لكنه في الوقت نفسه " أكثر المشاغل براءة " ولن نستطيع أن نتخيل جوهراً كلياً للشعر إلا بالجمع بين هذين التعريفين في أطار فكرة واحدة (.... لكن هل حقاً أن الشعر هو النتاج الأكثر خطورة ؟ بقول هولدرن في رسالة موجهة الى احد أصدقائه، انه " معرض بروق الإله "وبعد سنة من تاريخ هذه الرسالة ، أي بعد أن أصيب بالجنون، يكتب هولدرن ما معناه أن الضوء الباهر " بروق الإله " هو الذي جعل الشاعر يسقط في خضم الطلسمات .... أليس هو من يقول : " ..... ينبغي .
أن يرحل عندما يحين الاجل ، من تكلمت الروح بلسانه / ن . م / ص 65//
أضفت الجماعة صفة القداسة على الشعر ومنه حازت الشفوية قداستها، لأن مقترنة بالمقدس الذي ما زال حتى هذه اللحظة مجاوراً لها ، متعلماً منها المحاورة التي أكد هايدجر على حيويتها لأنها التي علمت الإنسان أن يكون إنساناً وشاعراً في آن .
الشفوية ضوء المقدس والرقص سمته والإيقاعات أصواته الضاج بها الفضاء المفتوح أو المعبد . حركات الأيادي المتشابكة أو المفردة . القداسة صفة الكلام لأن الإلهة هي قالته وكررته وعلمت الإنسان ترديده وركزت عليه النصوص الدينية والملاحم والإثارة فيه هي التشارك والصخب الحسي الجمعي الذي اتخذ صفة بدئية طاردة للوهم أو حقيقة ووهم أنه الحضور الذي تضيفه الشفوية على الكلام / الشعر ومنها عرف الكائن صفة القداسة .
ولابد من الإشارة الى أن الرقص أول الفنون التي ابتكرها الإنسان / وقادتها إبداعياً سلطة الإلهة الأم في الحضارات الشرقية ، ابتداء بعتبة سومر وهو ـ الرقص ـ أولى الفنون التجريدية التي ابتكرها العقل الإنساني، وعبر من خلال التجريد عن مقدس غير معروف أو مألوف، بمعنى تمكن الكائن البدئي من محاورة التجريد "وعندما اوجد الإنسان الفن، كما كان قد كشف لنفسه وسيلة حقيقية لزيادة قوته وإثراء حياته. ولنأخذ مثلاً رقص القبائل المحموم قبل الصيد، فقد كان يؤدي الى زيادة شعور القبيلة بقوتها " د. عز الدين إسماعيل / الفن والإنسان / دار العلم / بيروت / 1974/ ص22//.
أن اقتران الشفوية لأداء النصوص الأسطورية والتراتيل المقدسة ينطوي على سمة تشارك بين الشفوي والديني وهذه الاستمرارية الطويلة جداً والتي استغرقت فترة سيادة الشفوية في الأداء والشعائر والاحتفالات، يعني تراكم القيم الجمالية وازدياد خبرة الإنسان / بتصرف من د. عز الدين إسماعيل //
الشفوية طقسية، ابتكرها الإنسان البدئي في عتبات وجوده العددي القليل أمام حشود الحيوانات المتوحشة. التداول الشفوي كما قلت، شكل من أشكال الفن البدئي الأول، استثمره الإنسان مع جماعته الطرد لطرد الوحشة والخوف من المجهول ولا سبيل له للحصول على الاطمئنان الا الدعوة للتجمع والتشارك بالفعاليات والفنون إحدى تلك الوسائل الصادة للخطر والطاردة للخوف والوحشة .
أخيراً أن الشفوية، وصخبها وما يرافقها من ضوضاء هي الوسيلة البدئية للجماعات الإنسانية للانتصار على الطبيعة والتعايش معها وتحقق ذلك، وفر فضاء للكائن كي يفكر بالعقل واليد وكانت الحضارة التمظهر الأول لثنائية العقل واليد.