TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > صداقة مثالية

صداقة مثالية

نشر في: 12 سبتمبر, 2017: 09:01 م

ليس هناك أكثر من الرسائل بالتعبير عن شخصية الإنسان. قل لي الرسالة التي تكتب وأقول لك من أنت. في الأدب، وفي الرواية خاصة يفعل المرء كل ما في وسعه للكف عن كونه نفسه، يخترع عوالم وحيوات أخرى، على عكس ما يحدث في الرسائل. كل كلمة تُكتب هنا هي بمثابة صورة لكاتبها. الأمر الوحيد المشترك بين الإثنين هما أنهما يُخاطبان متلقياً. وهو المتلقي هذا الذي يمنح لكل رسالة خصوصيتها وليس العكس. عشرات الرسائل كُتبت قديماً وما تزال، كل رسالة هي كتاب مفتوح يشير إلى إنسان. ليس المقصود طبعاً هنا الرسائل الرسمية، بل القصد هو الرسائل التي يشعر فيها الإنسان، إنه لابد وأن يكتب ما لا تستطيع النطق به شفتاه، وهي رسائل البوح السري أحياناً، لأن أغلبها يظل حبيس الصناديق، محفوظاً بعناية مثل بقية الأسرار، لأنها ثمينة عند متلقيها لا يريد إشراك أحد معه فيها، وبسبب الحيطة والخوف على السمعة، وحدها الصدفة أو موت أصحابها يجعلا الطريق سالكاً لظهور تلك الأسرار إلى العلن، والغالب بعد سنوات من موت الإثنين، كاتب الرسالة ومتلقيها، كما حدث للرسائل التي تبادلها الروائي الأميركي صاحب النوبل أرنست همنغواي والممثلة الألمانية المشهورة مارلينة ديتريش "الملاك الأزرق".
كان يجب أن تمضي خمسة عقود ونيف على وفاة صاحب "وداعاً أيها السلاح" (توفى همنغواي عام 1961)، وعقدان ونيف على وفاة "الملاك الأزرق" الذي طاف خيالها العالم منذ أن مثلت دورها ذلك في الفيلم المأخوذ عن الرواية التي حملت العنوان ذاته للألماني هاينريش مان، لكي نعرف بالعلاقة القوية التي جمعت الإثنين.
مارلينة ديتريش التي من الصعب احصاء علاقاتها الغرامية ولا عدد الرجال والنساء الذين نامت معهم، لم تنم أبداً مع همنغواي. ففي الوقت الذي نامت فيه مع ممثلين زملاء لها وزميلات ممثلات، وروائي مثل صاحب "كل شيء هادئ في الميدان الغربي" أريش ماريا ريمارك (من الأفضل ألا نعدهم كلهم وإلا سيمتلأ بهم المقال)، حافظت على الاستثناء الوحيد: أرنست همنغواي.
صحيح أن الجنس هو أحد المواضيع الرئيسة في مراسلات الإثنين، إلا أن الرسائل التي تبادلها الإثنان على مدى خمسة وعشرين عاماً تضمنت كل ما أراد الإثنان أن ينفضاه عن صدرهما. ما باحه الإثنان لبعض لم يبوحا به لأي شخص آخر/ شريك أو حبيب. غالباً في رحلاتهما معاً الإثنين، في فندق ريتز في باريس مثلاً، كان همنغواي يغطس في البانيو ويحلق ذقنه، فيما جلست هي على حافة البانيو تتحدث له عن رجالها. علاقة بدون قيود بين الإثنين، حتى أن زوجة همنغواي الرابعة ماري لم تعترض عليها أبداً. ذات مرة أهدت مارلينة الزوجين غرفة في فندق ريتز ودون أن تدري مع ميكروفانات تنصت.
الإثنان كانا قد تعرّفا على بعض على متن سفينة أبحرت من الميناء الفرنسي "لاهارفة" إلى نيويورك. كانت في طريقها إلى مائدة العشاء، عندما لاحظت أنها الشخص رقم  13 الذي سيجلس إلى المائدة، ولأن الرقم 13 علامة للتشاؤم في الثقافة الغربية (حتى اليوم ليس هناك في الطائرات مقعداً يحمل هذا الرقم!)، وضعت يدها على قلبها، لكن ظهور "الملاك" فجأة همنغواي قبلها جعلها تصبح الرقم 14. حدث ذلك عام 1934 وكان للممثلة الألمانية "اليهودية" الهاربة من النظام النازي 32 عاماً. كانت في قمة شهرتها، أما همنغواي الذي كبرها بعامين، فقد كان هو الآخر مشهوراً بعد صدور روايته "فييستا" (الترجمة العربية: باريس عيداً للحياة!) وبعد المغامرات التي رويت عنه. تلك كانت بداية صداقة دامت 27 عاماً حتى انتحار صاحب النوبل 1961، نتعرف على تفاصيلها شكراً للكتاب الجديد الصادر في الألمانية لكاتب سيرة همنغواي، الألماني هانز بيتر رودينبيرغ بالتعاون مع إبنة مارلينة ديتريش، ماريا ريفا.
في الرسائل التي حوى عليها الكتاب نتعرف على الإنسانين أرنست "بابا العزيز" (كما خاطبته مارلينة)، وعلى مارلينة "طحلبي الصغير" (كما خاطبها همنغواي)، وكيف أنهما كانا قريبين من بعض، أقرب منهما لأيّ إنسان آخر، حبيباً كان أم شريك حياة، كأن الإثنين تنازلا للمرة الأولى عن جنسهما، من أجل صداقة هي أقوى من ممارسة الجنس. صداقة مثالية يتمناها المرء لنفسه، رجلاً كان أم إمرأة!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram