في البلاد التي لم تعد بلاداً، في السهول التي كانت رحيبة، والتي باتت كلمة الوطن فيها بلا معنى، ويتندر البعض من معانيها، هنا، على الصعيد الذي لا أطيب منه كان، سهلت استباحة الذين ما زالت قلوبُهم تحترق وتتحرق لرؤيتها معافاة، كريمة، خالية من مشاهد القتل والدم والنخر اليومي. ولأن هؤلاء(المحترقين بحبها) لم يعد بأيديهم ما يفعلوه لإنقاذها، بل ليس بينهم من يملك السحر لإيقاف خرابها، فقد وجدوا ضالتهم في الصمت كثيراً وفي صفحات التواصل أحياناً، وأتخذوها حائط مبكى لهم، راحوا يندبون حظهم عند طابوقه وملاطه.
في البلاد التي تحبها اليوم، عليك أن تتهم المقابر التي إمتلأت بطونها بجثث أهلك وأحبابك من الشباب، بسبب تناحر أقطابها واصطراع الطوائف فيها. اتهام المقابر مسموح لك حسب، ويتوجب عليك أن تتهم الجدران التي لم تسمع لك نداء مخلصاً، عليك أن لا تتحدث بشأن المدن المهدمة والشوارع الخربة والبيوت الكالحة وانقطاع الكهرباء وماء البصرة المالح. وإياك أن تتهم الحكومة المحلية بذلك، فهي لم تألُ جهداً، أبداً. ألا تجد ِكبارها وكبّارها يتزاحمون على باب دارك يسألونك الطمأنينة التي تحب، مساحة الرغد التي تتمنى وترضاها. في البلاد هذه، عليك أيضاً ان لا تبحث عن سلة الرطب البرحي في أحد بساتين أبي الخصيب، إنما تشتريها من بقال يائس مثلك، يبيعك السلة مغلفة، ممهورة بختم إحدى دول الجوار. عليك أن تبحث في كراسة الرسم عن كوخ على نهر فيه قارب أخضر او أزرق. في كراسة الرسم حسب، ها.
في البلاد التي انفقت الستين من عمرك على ترابها وبين نخيلها وأنهارها تجبرك آلتها الخفية على ان تكتب ما لا تؤمن به، وتوائم بين جرحك وجرحك، بين قدمك التي الى الأمام وقدمك التي الى الخلف، عليك أن تجترح لروحك طاقة فوق طاقتك، في الكتمان، ويداً لا تبطش بها إنما لتدرأ عن عينك ما يعترضك من صور الجمال والرعب معاً، أنت فيها لا لتسهم في افتدائها، هي تستباح كل لحظة، ستظل محدقا في أفق انهيارها، ولن تجد الجفن الصريح لبكائها، فهي بين الدمع الفاتر لحظة وبين الدم الفائر لحظات. كل قناديل الأرض لن تكفيك ضوءاً، كيما تراها واقفة، ستظل خيالاً أمامك ماحييت، لكن ظلام الكون لن يمحوها من دائرة عينك، أنت المبتلى بها وأنت الشاهد الحي على فردوسها مثلما الشاهد الأخير على احتراقها.
قل كلمتك الأخيرة، قلها. لكنني لا أظنك قادراً، فقد سرقوا فمك، اقتلعوا الكلام والتعبير والفهم، فما جدوى وقوفك إماماً أخرسَ في مسجد روحك، ما معنى استطالتك في شارع ستقتل في نهايته المظلمة، فأنت تحت عمود الضوء المكسور لست سوى خرقة في جسد. ما أوسع حلمك في البلاد، التي ستغادرها مزقاً تحت عجلة رباعية الدفع، ما أضيق الرصيف الذي ستُلقى عليه ذات نهار، ما اقبح فمك طريا بدمك، ما أحقر عينك لا تبصر لك قاتلاً، ما أقصرك ساقاً لم تعنك على تجاوز الحدود، ساعة انفتحت الى الأبد. هاكها، خذها عنّي، أيها القاتل، بلاداً لم يبق من بغضائي لها سواك.
في البلاد التي لم تعد
[post-views]
نشر في: 14 سبتمبر, 2017: 01:49 م
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
جميل جدا رائع.لكن اقول دعك عن هذا !!وكن قلما منيرا يشع ليبدد الظلام الحالك الذي جثم فوق البلد الذي احببته ولا بد لهذا الضوء من مستبصرين به ومن ثم ليشعلوا مصابيحهم حتى ياتي فجر جديد.