بزيبز.. جسرٌ متهالك ينوء بحمل عابريه، يصِل الهمَّ بالهم، والمأساةَ بالمأساة، هش لايقوى على الصمود، لكنه أيضاً يصل ما انقطع، هل في ذلك مفارقة ما، أم أن هذه هي حالة الجسور في زمن الحرب، حيث الوسيلة للهرب أو للملاحقة والأكثر للنجاة.. حيث الاندفاع والفوضى من أجل تفادي موت محقق.. كان الجنود البريطانيون على ساحل دنكيرك يسابقون الموت من أجل وسيلة نجاة، الحلفاء حشّدوا آلافاً من العسكر لإنقاذ عساكر آخرين، اعتبروها فيما بعد نصراً عسكرياً.
هل من وجه شبه سوى الظفر بشهقة أخرى وحياة جديدة... كان بزيبز ممراً للحياة رغم هشاشته، يلخّص محنة شعب، وكان بداية حكاية الحرب.
علي ريسان قدّم مرثية لبزيبز فيلمه الوثائقي بعد أن شاهدت فيلمه الوثائقي الآخر (الأمكنة المشاكسة) عن المغيب من تاريخ حركة الأنصار.. في هذا الفيلم، فكَّ ريسان الاشتباك بين الفيلم الوثائقي والريبورتاج، أو الفيلم التعريفي.. وضعنا مباشرة أمام موضوعه الذي لم يجرؤ أيِّ مخرج على الخوض به.
ولأن الحدث الذي يتناوله في فيلمه هذا مازال قريباً لايسمح برؤية متأملة، إلا أنه يعرف جيداً وكما وصل ذلك لمتلقي فيلمه، أن هذا الحدث يجب أن يوثّق في تداعياته، ذلك أنّ مأساة الحروب لاتحتمل أن نتأملها، فنحن نعيشها.
جسر بزيبز انفتح في فيلم علي ريسان على مشهد الحرب ومما خلفته على وجوه من قاساها، على حياتهم، على فقدانهم لأعزائهم، على هجرتهم بالقسر من منازل ألفوها، بمناطق في شمال العراق وغربه، كان البعض يعتبر أهلها حواضن للإرهاب، وقد لحقها الدمار والتشرد، بل انهم تركوا الغالي والنفيس ليظفروا بالحياة، ولايكتفي هؤلاء بهذا النمط من العيش، بل تركوا الكثير من أحبائهم كفرائس للأعداء .. قصصٌ تنقل لنا على لسان الشاب والطالب والطفل، وربّة البيت والشيخ العجوز.
يختار أربعة شهود بعناية للحديث عن المأساة، قسم داخلي بديل لطلبة الموصل في كركوك، أجبرتهم الحرب الضروس على أن يدمنوا الشتات، ليتحدثوا عن ظروف معيشتهم والمصاعب التي واجهتهم، وانفصالهم منذ زمن عن عوائلهم، يختار أربعة منهم يتناوبون بالحديث عن قصصهم بجرأة وشجاعة، أحدهم شاب وسيم يحدثنا قصته التي لاتخلو من ثقة عالية بالنفس، فيما الآخر يذهب الى التنظير بأسباب وجود داعش.. والجميع بخلفية غناءٍ شجيّ يؤديه أحد الطلبة (مصايب من وكت صارت لأهلنا)..
لينتقل الى أحد شيوخ العشائر وهو يتحدث عن ما وصلوا إليه (هلي كانوا خيار الناس).. والآن.. وكذا مع امرأة ثكلى ومع شيخ كبير .. بينما تردد الطفلة (اشتاقيت لصديقاتي ولمدرستي).
شهود أربعة يختارهم علي ريسان، بينما صورة للجسر تحيطه المئات شاهد، صاغتها كاميرا المخرج وكأنه اختار ممثليه المناسبين لأدوار أختارها، الطالب وهو يبكي على وقع غناء صديقه، الطفلة التي تبثّ أشواقها لتصمت ليس لأن التعبير خانها، بل لأنها تعرف أنه حلم صعب المنال، الشيخ وهو يحاول أن يستعيد أياماً مضت، والشيخ الذي ترصده الكاميرا بنظرة ساهمة حزينة، لكنه حين يتحدث فإنه يصرّ على العودة.
سردٌ ولا أجمل لفيلم وثائقي كثّف رؤاه حتى باستخدام اللقطات الأرشيفية ... ليقول إن محنة هؤلاء هي محنة العراق، واعتبرهم البعض مصدراً لداعش عليه أن يشاركهم هذه الخيمة المهترئة، وهذه اللقمة التي تحار الطفلة في الفيلم، أو أن يشاركهم عبور بزيبز.
مرثية بزيبز.. شهود رأوا كلِّ شيء
[post-views]
نشر في: 14 سبتمبر, 2017: 10:58 ص
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...