في تجارب متعددة سابقة لإنشاء متاحف للتشكيل العراقي، لم تكن كلها تفي شروط العرض المتحفي، إضافة الى افتقارها للصيانة كما شروط الصيانة المتحفية العالمية، كذلك انعدمت الأرشفة الفيلمية والصورية ومنها الرقمية. فلم يكن مشروع المتحف الأول في بيت من منطقة الك
في تجارب متعددة سابقة لإنشاء متاحف للتشكيل العراقي، لم تكن كلها تفي شروط العرض المتحفي، إضافة الى افتقارها للصيانة كما شروط الصيانة المتحفية العالمية، كذلك انعدمت الأرشفة الفيلمية والصورية ومنها الرقمية. فلم يكن مشروع المتحف الأول في بيت من منطقة الكسرة البغدادية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي (مجاوراً لمعهد الفنون، واعتقد تحولت محتوياته الى نواة متحف الرواد لاحقاً) يفي شروطه المتحفية، فقد كان مجرد بيت قديم، قدم بيوت المنطقة.
ونفس الشيء في متحف الرواد في السبعينيات في منطقة السنك. كذلك اعتقد أن بناية متحف كولبنكيان (1962) لا تتعدى كونها صالات للعروض الموسمية، كما هو الحال في الصالات المشابهة في مدن أوربية، ولم تكن مهيأة كبناية متحفية. مثلما هي لاحقاً بناية مركز الفنون في شارع حيفا التي كانت مصمّمة كسوق تجاري، مما تسبب في تلف الكثير من الأعمال المخزونة، إضافة الى أخطاء عديدة أخرى تناولتها في مقالة سابقة.
فإن كانت وظيفة المتحف تنحصر أولاً في حفظ العلامات المهمة للأعمال التشكيلية العراقية كإرث حديث ومستقبلي. فقد تبخر هذا الإرث بعد كارثة (2003)، إن لم يتسرب بعضه قبل هذا التاريخ. وهي كارثة لبلد كان فيه الفن التشكيلي يمثل الظاهرة المتقدمة في التشكيل العربي والمنطقة التي تحيطه. فأيِّ خسارة هذه.الخسارة الثانية تتمثل في تشتت الفعل التشكيلي نفسه بعد مغادرة أو هجرة الكثير من خيرة التشكيليين العراقيين لبلدان المهجر العالمية غربها وشرقها للحد الذي بات من الاستحالة إعادة العافية لمتحف التشكيل داخل العراق كما كان، ولو على علّاته، أو بما يوازي مستجدات المنجز التشكيلي العراقي عامّة، لضعف الإدارة وشح التمويل بشكل لا يصدق ضمن الجو السياسي الموبوء بنهب ثروات الدولة وعدم الالتفات الى إعادة بناء البنية التحتية التي هدتها انتهاكات الحروب المتعاقبة والحصار الغريب في تفاصيله المرعبة.
ضمن هذا الهزال اللا معقول وخوفاً من أن يضيع هذا الإرث الغني في نتاج شخوصه والكثير من تجاربهم المعاصرة المتقدمة التي تجاوزت أزمنة تلك المتاحف المبادة. كان لا بد أن يبادر أحدهم لطرح فكرة إنشاء متحف للفن التشكيلي العراقي المهاجر. هي فكرة معقولة ومهمة وتأتي بالوقت المناسب. ولو من أجل حفظ علامات هذا الإرث وعدم تشتته، وهو الآن مشتت فعلاً في العديد من المتاحف العربية، وبخاصة الخليجية منها. فهل بات الجار أولى منا بهذا الإرث. إن تجاوزنا النوايا الاقتصادية والدوافع السياسية التي لم تكن كلها سليمة.
الفنانة العراقية المغتربة (نوال السعدون) طرحت في وسائل التواصل الاجتماعية (مقترح) مشروع تأسيس متحف للفن العراقي المعاصر في المهجر. بعد مقدمتها التي أشارت فيها الى ما تعرضت له متاحف وقاعات عرض الأعمال الفنية في العراق بعد (2003) وما حصل من هجرة معظم التشكيليين منذ السبعينيات، ولاحقاً وضيق الحرية الممنوحة للفنان نتيجة التشدد وأصولية أحزاب السلطة الحالية. إضافة للمتغيرات الأسلوبية وشساعة مناطق التعبير والعروض الجديدة في بلدان الهجرة ولفقدان الأمل بالسلطة الثقافية الفنية المحلية وانغلاق أفقها وخوفاً من تشتت المنجز التشكيلي المتجدد وتسرب الكثير من الأعمال في السوق التشكيلي الخارجي. لذلك فهي تقترح تأسيس متحف دائم للفن العراقي المعاصر في المهجر. وأن يكون موقع المتحف في مدينة غرناطة لما تتضمنه من إرث
ثقافي وفني عربي ما زال حياً. ثم تكمل بقية مقترحها باقتراح المكان ومستلزمات تمويله اللوجستية، المادية، ومن ضمنها تأسيس جمعية باسم المشروع ليتم من خلالها مفاتحة الجهات المحلية والداعمة ومنها الفنانين أنفسهم، كذلك لجنة اختيار الأعمال.
تعقيباً على مقترح السعدون بيّن كل من الفنانين رسمي الخفاجي ومنير حنون من اسبانيا وعلاء جمعة من لندن، بعض الآراء والمقترحات أو النقاط المهمة التي من الممكن أن تعزز إمكانية إنشاء المشروع وذلك من وجهة نظر خبرتهم المهنية الفنية والعملية.
اعتقد من أجل تحقيق إدامة مشروع كهذا، لا بد من الاستعانة بشخصيات عراقية واجنبية محلية (مدينة المتحف المقترح) لتأسيس مجلس اداري يختار الشخوص المناسبة للإدارة
التنفيذية التي تأخذ على عاتقها مخاطبة الفنانين والممولين والسياسيين، إذا ما عرفنا حجم الصعوبة المادية واللوجستية لإنشاء هذا المتحف في دولة أوربية، وهي هنا مدينة قرطبة الاسبانية وفي مكان مناسب منها. ومشروع كهذا لابد أن تتوفر له الامكانات التنظيمية التأسيسية باختيار مجلس إدارة كفء لمهمة ثقافية فنية نوعية كهذه، من شخصيات ثقافية أو فنية اعتبارية مشهود بكفاءتها وحياديتها. تقوم بمهمتها بشكل تطوعي (لانعدام الموارد) مع اختيار أمين أو مدير تنفيذي ولو عن طريق تأسيس جمعية (كما تقترحه السعدون) تحمل مثلا عنوان (الجمعية التأسيسية لإنشاء متحف فن عراقيي المهجر) أو أي عنوان آخر. وانشاء صفحة أو موقع الكتروني على الأنترنت للتعريف بالمشروع واهميته محلياً (للبلد الحاضن) والفضاء الممنوح للثقافة والفن عالمياً.
الخطوة الثانية: البدء بجرد العناوين والبريد الالكتروني للمساهمين والداعمين والسياسيين ومحاولة الاتصال بهم أو الاجتماع بهم ومعرفة استعدادهم للحضور والمساهمة الفعلية والمعنوية للترويج والدعم.
ثالثاً: جرد أسماء وعناوين الفنانين الذين سوف يكونون نواة وإدامة هذا المشروع، وطرح الأفكار عن طريق (الجمعية التأسيسية) وهي جمعية غير ربحية (من أجل ضمان الدعم والإعفاء من الرسوم) والاتصال بهم لمعرفة مدى استعدادهم للمساهمة في الأعمال والدعم المالي، فهو أولاً وآخراً معلم لهم ولتاريخهم الفني آنياً ومستقبلاً ومرجع فني لا يستهان به. وفي حالة نجاحه فسوف يكون حاله حال أي متحف مقام في أيّ مدينة من المدن الأوربية من الممكن أن يتم من خلال إدارته عقد بروتوكولات تبادل اعمال أو عقد ندوات وغير ذلك مما تفعله بقية المتاحف من أنشطة ثقافية واجتماعية.
رابعاً: غالباً ما تحدث الانقسامات في الآراء حول اختيارات لجنة اختيار الأعمال. لكن من المهم أن يكون شخوصها يتمتعون بثقافة تشكيلية مواكبة للحداثة والعصر في نفس الوقت. فالمتحف كما أرى، يجب أن يضم في قاعاته العلامات التشكيلية الحديثة، والكثير من التشكيليين العراقيين لا يزالون يشتغلون ضمن منطقتها. مثلما يضم علاماته المعاصرة التي تشتغل على التقنيات المستجدة دوماً.
خامساً: الاستفادة من تجربة المتاحف بالأرشفة والصيانة التي هي بأهمية اقتناء العمل وعرضه، ولنا بتجربة مركز الفنون البغدادي وغيره أمثلة لم تحمد عقباها. ومن الممكن الاستعانة ببعض كوادر المتاحف المحلية. كل ذلك يعتمد على إدارة المتحف ومرونتها في انشاء علاقات مع نظراء آخرين.
سادساً: تبويب الاعمال الفنية، مثلاً قاعة للأعمال الحديثة وأخرى للمعاصرة، يراعى فيها خضوع العمل للمقاييس النقدية وليس زمن انتاج العمل الفني.
سابعاً والأهم: بالنسبة للتكلفة المرتفعة شراء بيت (متحف) يتوفر على المواصفات المطلوبة، من مكان مناسب من المدينة وسعة بنائه وواجهته والذي تقدر تكلفة شرائه التخمينية الفنانة نوال السعدون بـ(400 الف يورو الى مليون). وهي تكلفة ليست هينة. بدون توفر مصادر التموين لا يمكن تحقيق هذا المشروع. لكن لو توفرت مصادر التموين، وهي هنا تبرعات ومساهمات لا أكثر.
ثامناً: هناك مخاوف من أن يستحوذ على هذا المقترح وحتى في حال تحقيقه جهة ما وحسب إمكانية مانحيها لتحويله الى متحف فئوي يفقد هدفه الأنبل الأوسع. من هنا تأتي أهمية المشاورة والتأني في اختيار شخوص المجلس التأسيسي وإدارة المتحف من أجل أن يحقق هدفه في التعريف الواسع بنماذج من أعمال فناني المهجر التي تصلح أصلاً كأعمال متحفية بمواصفات وشروط اقتناءات المتاحف المماثلة. وهي في أوربا كثيرة ومنها الفئوية التي تمثل فرسان ظاهرة تشكيلية جديدة لزمنها. من هنا تأتي أهمية زيارات المتاحف الفنية المقاربة لهكذا مشروع ومعرفة آليات تمويله وإنشائه.