رافقت الكثير من الأعمال التشكيلية على مرِّ العصور مسحة من الدعابة، وتاريخ الفن زاخر بأمثلة لا تحصى تشير الى هذا الجانب الذي يعكس روح الفنان أو حالته النفسية اثناء إنجاز لوحته، أو لأجل إظهار تعبير معين أو تورية ما. قرون من الرسم اختبرنا فيها وشاهدنا الكثير من اللوحات التي تشير الى هذا الجانب، فهناك الفنان يرون بوش وأشكاله الشيطانية التي تحمل الكثير من الغموض والسحر، وجيوسيب أرسيمبولدو الذي رسم شخصياته على شكل فاكهة وسمّاها على اسماء الفصول، وبيتر برويغل وفلاحوه الراقصون في حفلاتهم القروية، ويان ستين الذي رسم لنفسه بورتريت شخصياً، حيث تظهر بجانبه بائعة هوى تحاول أن تسرق محفظة نقوده (وهذا الفنان الذي عاش في القرن السابع عشر، كان قد رسم أغلب لوحاته في الحانة التي كان يمتلكها ابوه بمدينة لايدن الهولندية)، وهناك مانيه ولوحته غداء على العشب التي يظهر فيها رجلان بكامل ملابسهما، صحبة امرأتين عاريتين وهم يتناولون الطعام علـى العشب، ومروراً برسامين مثل جياكومو بالا والكلب الذي رسمه يتحرك مع السلسلة التي تمسكها سيدة أرستقراطية، ومارك شاغال والحمير الطائرة التي رسمها تعزف الموسيقى، وجيمس أنسور والشخصيات المقنعة التي تمتلئ بها لوحاته التي تحمل الكثير من الرمزية، وفرانسيس بيكون الذي حَوَّلَ البابا الى شخص يصرخ بكل قوة وهو متشبث بكرسيه، ثم يأتي الكثير من رسامي البوب آرت، والحكاية لا تنتهي بالتأكيد حتى عند اوتو ديكس ومومساته غريبات الأطوار والعالقات في الذاكرة الى الأبد.
استعيد هذه الصور وغيرها الكثير وأنا اشاهد معرض (الكوميديا في الفن) بمتحف (دي هالن) بمدينة هارلم غرب هولندا والذي يضم اعمالاً حديثة لفنانين معاصرين. والمعرض يشير الى أن السخرية عند الكثير من الفنانين هي عمل جدي ويحمل الكثير من الترميز والتورية والنقد ايضاً، والأمر لا يخلو بالتأكيد من الدعابة التي تعزز الروح الإيجابية عند المتلقي. اعمال كثيرة ومتنوعة في المعرض، تشير كلها الى دعابات جميلة نحتاجها، دعابات نَمرُّ من أمامها مبتسمين ونمضي لشؤون حياتنا التي غيرتها طرق التواصل والعيش الجادة والمآسي التي تتكاثر كل يوم، وفي كل الجوانب.
يظهر في جانب من المعرض عمل كبير جداً للفنان هانس سترون، يظهر فيه رجل يصعد على سُلَّمٍ خشبي نحو السماء وهو يمسك بفرشاة طلاء كبيرة يلوِّنُ بها الفضاء، وقد اعطى عمله عنوان (تلوين السماء باللون الأزرق)، كذلك هناك مجموعة من الاعمال للفنان ستانلي بروان (توفي قبل بضعة أشهر) الذي عرف عنه اهتمامه بالفن المفاهيمي، والذي خرج الى مركز المدينة، وإدَّعى بأنه لا يعرف المكان جيداً، حيث كان يسأل المارة تباعاً عن اسم شارع معين أو عنوان لمكان ما في المدينة، ثم يطلب منهم أن يرسموا له على ورقة كيفية الوصول الى المكان المعني، ثم قام بعد ذلك بعرض هذه الخطوط والرسومات في المعرض، وهو بهذا لم يسحب الناس الى المتحف فقط، بل جعلهم يعرضون (اعمالهم) هناك إيضاً. وفِي قاعة اخرى ظهر عمل الفنان ميداس زفان، والذي كان بعنوان ( النظر من الأعلى) وهو عبارة عن مجموعة من حقائب السفر مرصوفة فوق بعضها وكأنها برج، حيث تنتهي بحقيبة مفتوحة نحو الأعلى تطل منها فوهات مجموعة من البنادق، وكل هذه الحقائب تستند على أربع أرجل لحصان، والعمل إشارة ساخرة للدول العظمى التي تضع السلاح ليتقاتل به الآخرون، بينما تنظر هذه الدول من الأعلى نحو ما يحدث. قبل أن أغادر المعرض واجهتني لوحة اشترك في رسمها اثنان من الفنانين هما سيل وكاماغوركا، اللذان يعملان دائماً معاً، وقد اختارا هذه المرة لوحة شهيرة لأدوارد هوبر تظهر فيها أمرأة وحيدة في غرفة النوم وتنظر من الشباك، قاما برسمها بشكل مطابق للأصل تماماً، لكنهماأضافا لها فقط وجهاً ضخماً يطل على المرأة من الخارج، انه وجه الرئيس ترامب.
الدعابة في الفن
[post-views]
نشر في: 15 سبتمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...