وكتابة السيرة لا تشترط لغة أو بلداً معينين فعدد من الأنجليز كتبوا سيرة شخصيات فرنسية وغير فرنسية أنه تخصص، وحقل عمل ثقافي مثلما هو فن خاص في الكتابة يحتاج قدرات فكرية ومهارات لاقتناص الحقيقة أو لكشف ما يمنح إثارة أو جديداً.فلم تكن سهلة الكتابة عن شخص
وكتابة السيرة لا تشترط لغة أو بلداً معينين فعدد من الأنجليز كتبوا سيرة شخصيات فرنسية وغير فرنسية أنه تخصص، وحقل عمل ثقافي مثلما هو فن خاص في الكتابة يحتاج قدرات فكرية ومهارات لاقتناص الحقيقة أو لكشف ما يمنح إثارة أو جديداً.
فلم تكن سهلة الكتابة عن شخصية”جورجز سيمنون”Georges Simenon صاحب الروايات الكثر والنساء الكثر والحياة الضائعة في التلافيف..
لكن فنتن برسلر Fenton Bresler قدمت سيرة ممتعة وذكية عنه بعنوان”غموض، أو سر سيمنون”(لندن 1983) The Mystery of Gerges Simenon كتبتها بعد متابعة لأخباره وعلاقاته في سويسرا وبلجيكا وفرنسا وأمريكا وقد استطاعت أن تزيل الغموض الذي سببته مذكراته ورسائله المختلفة باختلاف علاقاته وتغيرها، وإذ رفض سومرست موم من قبل أن تكون له علاقة بمن يكتب عنه، ترك الأخير كل أرشيفه لمن أراد أن يكتب وكأنه يتحداه أن يصل إلى شيء!
ذكرت بضعة أمثلة لأشير إلى المتعة والعلمية وروح البحث في كتابة السيرة، بلا أسلوب ذكي متقن، لا سيرة جيدة أطلاقاً!
سير عديدة ومختلفة الأساليب كانت دوافع لمتابعة تطور هذا الفن وما قد استجد في النمط الذي نسميه الحديث منها.
للأستاذ كتنكز Robert Gittings كتاب قيم في هذا الموضوع عنوانه”طبيعة السيرة”The Nature of Biograpgy يقدمه بقول للشاعر جون كيتس:
"مع كل هذا هم ضحلون أولئك الذين يتناولون كل شيء حرفياً فحياة الإنسان، مهما كان شأنها، هي رمزية باستمرار. وعيون قليلة جداً تلك التي نستطيع رؤية سر الحياة، الحياة مثل النصوص (الخالدة) تصويرية استعارية..".
ويستنتج كتنكز : إذن من الضحالة، أو الأفق المحدود، أن يعتمد في كتابة السيرة على الحقائق المثبتة حسب، والتي توفر لها سندٌ تاريخي أو علمي.
نرى أن هذه نقطة تحول مهمة عما كان. فالسيرة الجديدة راحت تبحث وراء الوثائق والشهادات لتستخرج الفحوى الخفية وراء المفهوم فيها، هي لا تعيد اكتشاف الشخصية، بل تعيد قراءة واكتشاف الوثائق! لقد نقل هذا الفهم الجديد”البيوغرافيا”إلى أفق آخر. فحياة الإنسان كما قال كيتس رمزية وتحتاج نظراً خاصاً لرؤيتها. السيرة الجديدة تجعل من فن الحياة المعيش فناً مكتوباً، فنحن حين نقرأ اليوم قول كارليل أنه يبحث في السيرة عن الفرح الذي لم يعبّر عنه في تلك الحياة، نفهم بعضاً مما يراد في السيرة اليوم. كشفُ الغنى في التجربة الإنسانية المعيشة في الماضي والعوالم الخفية وراءها يجعلنا أمام عمل يحق لـ كتنكز وصفه بأنه”واحد من أكثر المنجزات المتحققة أهمية في عصرنا الحالي".
إن التحولات التي حدثت في فن السيرة، ومنها ما كتبه كارلايل عن فردريك”فردريك الكبير”أو”كرومويل”لم تجعل السيرة التقليدية من مخلفات الماضي، لكنها أضافت إليها مزايا جديدة هي من متطلبات، ومما يوفره، العصر الثقافي والتكنولوجي الجديد. فالسيرة ما عادت، كما قلنا، رسائل وأخباراً وأحداثاً تاريخية، بل صارت ذلك كله ومعه العناصر المكونة الجديدة، وحتى الحماسة للعمل، ما عادت حماسة مطلقة لمن نحب أو نكره. صارت حماسة بحث علمي مجده فيما يكشف وما يعيد إحياؤه من عوالم وحقائق. السيرة الجيدة أظهرت كم كنا نجهل من العالم الذي مر، ومن احبابنا ومعاصرينا القريبين منا. وأنت تعيش بينهم لا ترى كل شيء هذا ما تقول به السيرة اليوم.
والمشكلة التي تهتم بجلها السيرة، هي كم وجه وكم صورة للشخصية الواحدة وكم زاوية لفهمه؟ ثم كم تستقر أذهاننا على هذا المعنى أو هذا الفهم لنتركهما غير مقتنعين إلى تفسيرين آخرين؟ هذا يعني أننا أمام مادة حية متحركة وعلينا أن نكون متحركين وأحياء وهي ليست مادة ميتة أو اكتسبت حالها الأخير كما كانت السيرة القديمة تنظر إلى حياة بطل السيرة. يشاركه اليوم كاتب السيرة، يجايله ويتلبس كل أحواله روحاً ومزاجاً وعقلاً وأجواء وأحداث عصر وطبيعة. هنا في رأيي يتحقق الأبداع الأدبي في كتابة السيرة : الشخصيتان حيتان وغير مستقرتين. هذه تتلبس غموضاً وهذه تكشفه وتلك تروغ وهذه تحاصرها، والنتيجة أن في مرحلة زمنية محددة تعيش شخصيتان واحدة منتمية إلى الماضي، في الغالب، هي شخصية صاحب السيرة المكتوب عنه، المراد اكتشاف تفاصيل حياته، وشخصية كاتب السيرة الذي يريد أن يعايشه ويعرفه. وكل واحدة تؤثر في الأخرى وتسهم في تحولها. هنا الفن الجميل، و يتحقق الإبداع حين نصور هذه العملية ونحصرها بين دفتي كتاب! ذلك هو المنجز الأدبي الذي وصفه كتنكز بأنه”أكثر المنجزات المتحققة أهمية في عصرنا الراهن".
الشاعر”آرثر هـ. كلاف”في مقدمته لمنظومات درايدن عن الشخصيات التي تناولها بلوتارك، يشير إلى أن بلوتارك كتب هذه السير في عصر الإمبراطورية الرومانية الأول، ذلك العصر المترف السعيد، فانعكس ذلك في أسلوب بلوتارك. فلغته لغة رجل فرِحٍ بنفسه وبما حوله، كانت الحياة مستقرة هانئة حول البحر المتوسط في تلك الفترة.
يكشف هذا الكلام عنصرين آخرين مما يحتاجه فن السيرة، الأول فهم العصر جغرافياً وسياسياً واقتصادياً، فذلك يمكِّن من معرفة حال العالم الذي عاش فيه المكتوب عنه ومدى حريته في التحرك فيه. مدى الحرية، أو مدى اليسر، يحدد الأهداف أو يغيرها، وبالتالي نعرف أيضاً أسباباً أخرى لانتصاراته أو خيباته، كما أنه يوسع أو يحدد دلالات أقواله وإشاراته. لا أراني بحاجة إلى تفصيل هذا الكلام فهو مما ألفناه، ومن الأسس التي نعرفها وما زالت تؤثر في الحياة كما في كتابة السيرة، بل أحياناً، لا تسهل الكتابة دونها، سواء كانت الشخصية المكتوب عنها شاعراً أو جنرالاً أو فيلسوفاً أو مصلحاً اجتماعياً.