TOP

جريدة المدى > عام > وجوه الحب الثلاثون..لابد أن نمر بالحب.. واذا لم نجده علينا أن نبتكره

وجوه الحب الثلاثون..لابد أن نمر بالحب.. واذا لم نجده علينا أن نبتكره

نشر في: 16 سبتمبر, 2017: 09:01 م

|       22    |
عندما ولد عام 1799 ، كان أبوه يحتل مركزاً اجتماعياً ومالياً مرموقاً، لكنه يعاني من نزق زوجته  "لورا سالومبيه" التي تصغره بأثنين وثلاثين عاماً، وتتمتع بجمال خارق وثقافة متميزة، لكنها ق

|       22    |

عندما ولد عام 1799 ، كان أبوه يحتل مركزاً اجتماعياً ومالياً مرموقاً، لكنه يعاني من نزق زوجته  "لورا سالومبيه" التي تصغره بأثنين وثلاثين عاماً، وتتمتع بجمال خارق وثقافة متميزة، لكنها قاسية القلب وتميل الى العبث، مما أثر كثيراً في علاقتها بابنها الذي اصبح فيما بعد أشهر أدباء فرنسا، رغم انه ظل يكنّ لها حباً كبيراً يخالطه شيء من الخوف لازمه حتى عندما اصبح شاباً، فكان لايقترب منها إلا وهو يرتجف، وقد أشار في الكثير من قصصه ورواياته بحاجة ابطاله الى الشعور بالحماية النسائية. ونرى سيرته الذاتية التي نشرت بعد وفاته، يتذكر طفولته التي كانت شبيهة بطفولة الشاعر بوديلر والروائي ستندال، كانت أمه صعبة المراس استأثر ابنها الأصغر بكل اهتمامها وعنايتها.

برودة الحب
في تموز 1821 يكتب اورونيه دو بلزاك الى اخته لورا: "أما أمي فكانت تسير على غرار الطبيعة، فهي مزعجة طوال خمس ساعات، ومرحة ولطيفة للحظة واحدة"، وبعد أعوام يكتب الى امه: "لا اطلب منك أن تصطنعي شعوراً لن يخامرك لأنك انت والله تعلمان انك لم تغمرينني بالقبل والحنان منذ خلقت، وحسناً فعلت، لأنك لو لم احببتني كما احببت اخي هنري، لكنت حيث هو الآن، ومن هذه الناحية كنت لي أماً صالحة".
ويكتب في رسالة الى اخته لورا: "ما هي العاهة الجسدية أو المعنوية التي سببت لي برودة أمي تجاهي، هل كنت ابن الواجب، ذلك الذي يولد بمجرد المصادفة أو حتى ذلك الذي حياته ملامة؟ سُلمت الى المربية في الريف، فنسيني اهلي طوال ثلاث سنوات، وعندما عدت الى البيت كان حظي منه قليلاً، فأثرت شفقة الناس، اني لا اعرف العاطفة ولا القدر السعيد اللذين مكّناني من النهوض من هذه السقطة الأولى ، فلا الطفل فيَّ يعلم ولا الرجل يدري شيئاً".
هذا الجرح هو الذي جعله يكتب: "هناك أناس يخلقون تعساء وأنا منهم "ولكن مع شعور الحرمان والفراق تستيقظ قوى التعويض، فيقرر الولد المُهمل أن يفرض الحب، ويصمم على بلوغ المجد، وفي واحدة من رسائله الى اخته يكتب:  "فكري بسعادتي، لو جعلت اسم بلزاك شهيراً ! ما اعظمها وسيلة لقهر النسيان". وبعدها يرسل الى امه كلمات قصيرة: " لا شيء إلا الحب والمجد يملآن قلبي، ولا همّ لي الا رغبة الارتفاع ". ويحاول بلزاك من خلال رواياته أن يعوّض هذا الحنان والحب ويكتب في سيرته الذاتية: "أردت أن انتقم من المجتمع، أردت أن امتلك كل النساء، وأن أرى الانظار تتصوب كلها  اليّ".
عندما بلغ بلزاك الثامنة من عمره، تم ادخاله الى مدرسة داخلية، فكان خلال تلك الفترة اكثر التلاميذ كسلاً واقلهم نشاطاً واكثرهم شروداً، وقد اهتم منذ صغره بالقراءة، وتخبرنا شقيقته، أن المطالعة أصبحت بالنسبة إليه مثل جوع لايرتوي منه،  كان يلتهم الكتب من كل نوع بدون تمييز بين كتب دين وفلسفة وأدب، قال لأحد زملائه، إنه يشعر بلذة لاتوصف وهو يقرأ القواميس، واضطر مدير المدرسة الى ارسال خطاب الى عائلته يرجوهم فيه إخراجه من المدرسة، لأن صحته تدهورت، وسرعان ما سافر مع أبيه الى باريس، وحين أتمّ السابعة عشرة من عمره، يعينه والده بمكتب احد المحامين للعمل فيه، لكنه في ذلك الوقت كان يمجد شيئين، الشهرة ، والحب، وهما كانا آنذاك امنيتين بعيدتا المنال بالنسبة لشاب مغمور يعمل في مكتب للمحاماة، لايوحي شكله البدين بأنه يمكن أن يثير اعجاب النساء.
وحين بلغ العشرين من عمره ،عرض عليه أبوه أن يزوجه ابنة أحد اصدقائه الأثرياء، لكنه يرفض فهو يبحث عن الحب وليس الزواج، ومع الحب كان هناك هاجس الأدب والكتابة، فسخرت منه امه، إلا أن الأب حاول أن يساعده، فمنحه فرصة أن يجرب حظه في الكتابة مع مبلغ ثلاثة آلاف فرنك، واشترط عليه اذا لم يستطع خلال عام أن يثبت موهبته في الكتابة ، ويحصل على دخل كافٍ يعيش فيه، وإلا فالزواج من ابنة الصديق الغني لامفر منه.
قبل بلزاك التحدي، فاعتكف في غرفته على الكتابة، يدفعه حافز قوي أن يحقق حلمه في كتابة المأساة المسرحية، لكنه يفشل حين يعرض أول اعماله على فكتور هيجو الذي ينصحه بأن يجرب كتابة القصص ومعها الحب، وهنا تظهر المرأة الاولى في حياته. كانت في الخامسة والأربعين من عمرها تدعى "مدام دي برني" ، لم تكن جميلة، لكنها تملك شخصية مرحة، وحين التقاها بلزاك كان يقرأ كتب جان جاك روسو، وأغرم بروايته الشهيرة "هلُويز" حتى انه حفظ معظم صفحاتها عن ظهر قلب، وكان يرددها امام اخته لورا، ومثل روسو كان يحلم أن يجد امرأة مثل بطلة الرواية "جولي" شابة جميلة ومثقفة، تقع في حب معلمها الخاص، ونراها في الرواية تهتف: "لقد جعلت السماء أحدنا للآخر! لم يكن هناك اتحاد اكثر مثالية من هذا، روحانا متداخلتان ايضا بشكل وثيق، ولم يعد بوسعهما الانفصال أبداً". كان بلزاك في شبابه يريد أن يقلد حياة جان جاك روسو، الذي أقام وهو شاب علاقة حب مع امرأة تكبره بتسعة عشر عاماً، إلا أن بلزاك كانت تعوزه الجرأة، فهو شاب شديد الخجل وهو يصف نفسه في رساله الى اخته لورا: "هكذا انا، وهكذا سأظل دائماً خجولاً الى الدرجة القصوى ، وعاشقاً مجنوناً بحبه، وعفيفاً الى الدرجة التي لا أجرؤ معها على أن اقول لامرأة : اني احبك! واعترف انني ابعد ما أكون عن مظهر العاشق ومسلكه أو بالأحرى انني مثل بعض الفتيات اللواتي تبدو الواحدة منهن خجولة ورقيقة لكنها خرقاء وغبية في نفس الوقت، وتخفي تحت هذا القناع ناراً تحرق القلب، ولكني لن ابلغ وصف حالتي ما بلغه كاتب عظيم هو روسو، فأقرأي وصفه لنفسه في اعترافاته".
وهو يكتب في سيرته الذاتية: "اتخذ الحب لديّ شكل الهوى، الهوى الجبان المطلق الذي يتملك بعض الشيوخ".
لكنه في النهاية يتغلب على خجله ويقرر أن يرسل رسالة الى المرأة التي شغلته:  "لست انتظر منك حباً ولا اعجاباً ولا سخرية، لكني كنت دائماً اؤمن ، ان في اعماق كل امرأة شعوراً يقرب من الرقة والصداقة. هو الحنان، هو الشفقة الكريمة التي تمد يدها للمجانين كما تمدها للتعساء. فأسمحي لي ياسيدتي أن اودع عندك روحي كلها، روحي النقية غير الملوثة التي أجرؤ أن اقدمها لك كهدية من اطهر الهدايا التي يستطيع انسان أن يهديها". ويبدو أن الرسالة اعجبت مدام دي برني التي أرسلت له رداً قصيراً تشكره على مشاعره الرقيقة الطاهرة.
************

استعادة اللحظات الاولى
في روايته التي كتبها عام 1835 زنبقة في الوادي، نستعيد اللحظات الأولى التي التقى فيها بلزاك بمدام دي برني : "حين رأيتها للمرة الأولى اضطربت حواسي،  آنذاك كنت جالساً عابساً على طرف مقعد مهجور وعيناي ثابتتان لاتتحركان. فجأة شعرت بعطر امرأة يلتمع في نفسي . تطلعت الى جارتي فأبهرتني اكثر مما ابهرني العيد، ولو علمت جيداً حياتي السالفة لأدركت الشواعر التي دفقت في قلبي. لقد ادهشت عينيّ الكتفان البيضاوان البارزان. وودت أن الامسهما. كتفان موردتان تنطويان على روح تلمع بشرتها في النور كوشاح من حرير. سحرتني العنق المغطاة بنسيج شفاف . إن اتفه تفاصيل هذه الرأس كان كالطعم يوقظ فيّ لذات متناهية . اما بريق الشعر الممسد فوق عنق مخملية. كل هذا ضيع رشدي، ولما تيقنت أن لا أحد يراني عصت في الظهر كولد يستلقي في احشاء أمه".
إن هنريت في " زنبقة في الوادي،"  هي طيف مدام دي برني، التي سيكتب لها بلزاك: "حين رأيتك في المرة الأولى، اثار مرآك حواسي وانعش خيالي الى حد صورك لي أمرأة كاملة المواصفات، هكذا يمكنك أن تعتبري سنواتك الخمس والأربعين كأن لا وجود لها في نظري، أو فلأقل انني تنبهت اليها لحظة، فإنما لأنظر اليها كبرهان على قوة عواطفي".
وبعد عشرات الرسائل، يلتقي العاشقان، ونرى بلزاك يكتب في مذكراته: "أن روحي كلها صارت مرتبطة بروحها، لا أرى غير المقعد الخشبي الذي جلست عليه، ولا احس غير ضغط جسدها الناعم على جسدي، لقد تغيرت، فأنا احب الى حد الجنون".
لايزال بلزاك يحفظ ما كتبه جان جاك روسو في "الاعترافات": الحب حالة معدية" ، ونعرف أن بلزاك جنَّ بمدام دي برني، ويعترف بأن ما من حب من دون أن يُجرح، وما من حب من دون أن نُذبل فيه، وما من عشق من دون قلق يفيض من الأعين، فالمشاعر جميعها معذِية ومعذَبة، اذن لابد أن نمر بالحب، واذا لم نجده علينا أن نبتكره"  يكتب معلم بلزاك جان جاك روسو: "حتى اكثر النساك، ورعاً ليسوا في مأمن من أن يصيروا اطفالاً صغاراً أمام امرأة جميلة".
ويبدو أن بلزاك أراد من خلال رواياته العاطفية "امرأة في الثلاثين، زنبقة في الوادي، اوجيني غراندة " ، السعي دائماً الى الحب المجنون، الى المرأة الجامعة بين الأم والحبيبة. ونراه يكتب الى اخته لورا: "لو علمت بأية قوة تندفع نفسي  المستوحدة  المهملة نحو عاطفة حقيقية، إن هذا الأمر ليس الا نتيجة طبيعية لحياة فارغة  دوماً وتعيسة، اني كسجين يسمع من بعيد، وهو في اعماق أسره، صوت امرأة بالغ العذوبة". ولكي يقدم لنا مفهومه للحب، يكتب في روايته امرأة في الثلاثين: "نفوس النساء التي تقوى على جعل اللا متناهي في الحب تشكل استثناءات ملائكية، انها بالنسبة لسائر النفوس النسائية كالعبقريات بين الرجال، الأهواء الكبرى نادرة كالروائع".
ونراه في اوجيني غرانده، يعبر من خلال بطل الرواية  لوسيان عن مفهوم العشق الذي يصيب الانسان أول مرة : "مهما تكن قدرة هذا الفتى ولامبالاته بالنسبة للذات ، ورغم تخمته في العشية، فإنه وجد في الفتاة الذهبية العينين، النعيم الذي تخلفه المرأة المحبة لتأسر الرجال، هذا المعبر الذي دفع بدون جوان الى التنقيب في قلب النساء على أمل العثور على الفكرة المتناهية الحدود التي لطالما سعى إليها الكثيرون من صيادي الأشباح".
ولعلّ المثير في قصة الحب التي عاشها بلزاك مع مدام دي برني، أن هذه السيدة التي تكبره بسنوات، استطاعت أن تنمّي معارفه في مجالات عدّة، فهي عاشت في قصور الأمراء وتعرف خفايا التاريخ، وقد كانت امرأة غنية بالذكريات، وفي جلساتهما المسائية، استطاعت أن تزوده بكل ما تعرفه عن السياسة وخفايا النساء  وأثاث البيوت ومباني باريس، والأهم أنها استطاعت أن تزوده بالجرأة على مواجهة الواقع، وكيف يمكن الاستفادة مما يراه في كتابة رواياته، بل يؤكد معظم دارسي أدب بلزاك، أن مدام دي برني، كانت هي التي اعطته العديد من الافكار التي تحولت فيما بعد الى روايات، حتى انه كتب بعد وفاتها: " في بداية حياتي، كانت لي أماً حقيقية.. يا الهي، لم تعد توجد روح واحدة تفهمني، فقد كانت هناك روح واحدة فقط".
ولعلّ رسائل بلزاك الى مدام برني، التي نشرت بعد وفاته تكشف لنا عن التأثير الذي مارسته هذه المرأة على حياته وأدبه فهو يكتب إليها: "ثقي بأنك محبوبة كما ولا امرأة، انظري خلال التخريب الذي تحدثينه في رأسي، في قلبي، تعرفي الى أيِّ حد انت الكل بالكل، الزهرة والثمرة، القوة والضعف، السرور والالم، الالم عن غير عمد، السرور الدائم، حتى في الالم، الفن والسعادة، الرجاء، كل الامور الانسانية الحسنة والجميلة، حتى الدين، لا استطيع أن اقول انك كآلهة، لاني اعتقد انك اكثر".
ثم نراه يكتب لها بعد أيام: "انك كل عائلتي، تقومين مقام امي منذ الثالثة عشرة من عمري، ومقام الصديقة (الوحيدة) والأخت والأخ والرفيقة والعشيقة".
************

الخوف من الحب
الحب الثاني كان مع مدام "زولما كارو" التي كانت زميلة لاخته لورا في المدرسة، لكنها كانت صعبة المنال، فلم يجرؤ أن يتحدث معها عن الحب، لكنها في المقابل كانت معجبة بما يكتبه، وقد كتبت اليه: "لست اريد، الصداقة الممتعة التي تقدمها للنساء اللواتي، يفضلنني الف مرة، وانما اطمح الى عاطفة اسمى، هي أن احظى بتقديرك الكافي بحيث تجعل مني امرأة (احتياطية) تستجيب فوراً لندائك، حيث يزعج بهجتك طارئ أو تجرح قلبك خيبة أمل مفاجئة، فتناديها مستغيثاً".
إلا أن علاقة الحب هذه لم تدم طويلاً، كما انها لم تؤثر في بلزاك، الذي انتقل لحب المركيزة دي كاستري، وكانت هذه التجربة مغامرة خاسرة بالنسبة اليه، فقد تورط في الحب مثلما تورط في الديون لأنه كان يريد أن يرضيها، ونجد مدام دي برني تحذره من هذه المغامرات فتكتب اليه: "أن خوفاً مميتاً يزحف أحياناً على قلبي، كلما سمعت بأحوالك، فأصغ الى صوت العقل ياصديقي العزيز المحبوب".
لكن مدام دي برني بلغت أخيراً السابعة والخمسين من عمرها عام 1832، فكان لابد أن يبحث بلزاك عن حب شاب وهو يكتب في مذكراته: "منذ أن صارت لي افكار ومشاعر، كرست نفسي للحب وحده، فكانت اول امرأة صادفتها ذات قلب ملائكي وروح فطنة، لكنها –وياويلتي– كانت تكبرني باثنين وعشرين عاماً، بحيث اذا تغاضيت عن مغزى ذلك من ناحية المبدأ، وضعت الطبيعة في وجهي عوائق مادية لايمكن تخطيها".
ولأن بلزاك أحب دائماً نساء اكبر منه عمراً، نجده في رواياته يتوقف كثيراً عند سن المرأة، فأوجد ولأول مرة في الأدب الروائي البطلة التي تحب بعد أن تجاوزت الاربعين، لكنه لم يجرؤ على أن يصور في رواياته، بعض ملامح سيرته الذاتية   والنهاية التي انتهت فيها علاقته مع مدام دي برني، بعد أن اصيبت بالمرض، ونجده في مذكراته يكتب: "انها تسمو بصداقتها إلى حد اخفاء آلامها عني، فهي تريد أن تشفى من اجلي، يا إلهي، لكم تغيرت في الشهرين الأخيرين، لقد اصابني الرعب حين رأيتها ".
وحين ماتت كتب: "ها انذا انفّذ وصية حبيبتي وكلماتها الأخيرة التي كتبتها لي والتي قالت فيها: "الآن استطيع ان اموت مطمئنة، فإني واثقة انك ستضع فوق جبينك التاج الذي طالما حلمت بأن أراه، إن قصتك زنبقة في الوادي عمل أدبي عظيم".
************

بين الحياة والأدب
يخبرنا بلزاك، أن روايته زنبقة في الوادي كتبها بعد أن علم بمرض مدام دي برني الخطير، فأراد أن يخلد صديقته، وأن يكتب لها عملاً أدبياً تقرأه قبل موتها.
وفي الرواية نحن بمواجهة الشاب "فيليكس" الذي ينتمي الى عائلة غنية، لكنه يعاني من طفولة قاسية – مثل بلزاك – ولايعرف شيئاً عن النساء، والنموذج الوحيد الذي عاش معه هي امه التي لاتهتم به كثيراً، لكنه ذات يوم وبعد أن بلغ العشرين من عمره،  يحضر حفلة ساهرة،  فنجده يجلس الى جوار امرأة مجهولة يفتنه جمالها الى حد أنه دون أن يعي يقترب منها ويقبل كتفها، فتطلق المرأة صيحة حادة وتستدير حوله  لتشتمه  ثم تغادر القاعة.
ويبدأ فيليكس يسأل عن المرأة من هي، ويمضي في رحلة البحث عنها في كل مكان ، وذات يوم يقترب من أحد القصور ويقول لنفسه: "اذا كانت هذه المرأة المجهولة تعيش في مكان ما على الأرض .. فهذا هو المكان".
ويصدق حدسه، ففي هذا القصر الكبير تعيش مدام دي مورسوف، ويعرف انها متزوجة من رجل عجوز، ولديها طفلان، ويقرر التقرب الى زوجها فيزورها في البيت بدعوة من الزوج الذي شعر بألفة مع هذا الشاب، وأراد أن يلقي عليه دروساً في الزراعة وتربية الكلاب.
إلا أن في اللحظة التي يقرر فيها فيليكس أن يتحدث مع مدان مورسوف عن مشاعره توقفه  قائلة : "هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن لاتفعله،  وإذا لم تتوقف سوف امنعك من دخول المنزل ". ويقبل بشروطها ، لكنه يفاجأها بين الحين والآخر، بأن يقبّل يديها: " حين تفشل الكلمات، يحدث الصمت أثره في النفوس، ويسأل أحدنا الآخر بنظراته : ترى هل يقدر لنا أن نحظى بيوم نستطيع أن نسميه يومنا".
وتقرر مدام مورسوف أن تساعد فيليكس في حياته العملية، وتختار له العمل في السياسة،  ويحصل على منصب حكومي كبير، وفي هذه الاثناء يلتقي بامرأة انكليزية جميلة  تحاول أن تقيم معه علاقة حب : "كانت تعرض عليّ وهي تضحك اكثر العروض تواضعاً، بأن اسمح لها أن تحبني، وذات يوم قالت لي، سوف اظل دائماً صديقتك، خليلتك أينما تريد". ونجد فيليكس ممزقاً بين مدام مورسوف وليدي ردلي، كما وجد بلزاك نفسه ذات يوم حائراً بين مدام دي برني  وفتاة أخرى تصغرها سناً، وحين تعرف مدام مورسوف بالأمر، تخبره بأنها ستتركه لحبيبته الجديدة :" وداعاً يا طفلي الغالي،  من روح سكبت أنت فيها الأفراح والمباهج ما انوء بحمله، وما يغفر لك الكارثة  التي انتهى امري اليها،  انا موقنة انك تحبني، ولهذا اقترب من راحتي الابدية، وأنا ارتجف أسفاً وندماً" .
ونجده يكتب لمدام دي برني  في احدى رسائله :" بدونك ما كنت كتبت زنبقة في الوادي "وهو يخبرها وهي على فراش المرض :"اني اكتب لك،  اريد المجد من اجلك،  انك كل شيء ، الجمهور، المستقبل".
في الخمسين من عمره يتعرف  بلزاك على مدام  دوهانسكا.  وكانت سيدة روسية غنية . ولأنه ضعيف الحظ  مع النساء،  شديد الاحساس بالنقص تجاه كل سيدة وبسبب هذا الاحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا، لما سيناله بزواجها من استقرار  ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.
وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار، وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال  لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم تبق له في الحياة إلا شهور معدودة!
وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله، ليعقد أخيراً زواجه في آذار عام 1850 في هدوء وصمت،  وقدر  بلزاك أن يعيش معها خمسة وعشرين عاماً، يكتب أثناءها خمسين كتاباً ليتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث،  فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. باستثناء كتاب صغير اسماه " فلسفة الزواج " ، والذي يعد تحفة فنية  ونادرة ، يقول بلزاك عن مؤلفه هذا: سيدتي، هذا كتاب من أجل الدفاع عن النساء، وهكذا فإن معنى كتابي هو تحميلي الحصري لجميع الخطايا التي ارْتُكِبت من طرف النساء لأزواجهن.. إنها تبرئة عظيمة، بعد ذلك أطالب بالحقوق الطبيعية وغير القابلة للتقادم للمرأة، ليس هنالك زواج سعيد إذا لم تسبقه معرفة شاملة من طرف الزوجين، فيما يتعلق بالتقاليد والعادات والطبائع إلى غير ذلك، ولم يحدث أن تراجعت عن هذا المبدأ أمام أية عواقب، ويضيف الكاتب متهكماً، أولئك الذين يعرفونني، يعلمون بأنني كنت دائماً وفياً منذ سن الرشد، بأن قوانين الحب تربط بقوة مخلوقين لا يستطيع أي قانون بشري أن يفرق بينهما؟
في مساء الثامن عشر من آب عام 1850 يصاب بلزاك بأزمة قلبية تلزمه الفراش ولاينهض منها ، يزوره فكتور هيجو، الذي يروي لنا اللحظات الأخيرة من حياة اكبر ادباء فرنسا :"كان وجهه بنفسجياً، ويكاد يكون أسود، منحنياً لجهة اليمين، لحيته كثة، شعره رمادي قصير ، عيناه مفتوحتان  ومحدقتان، رأيته من جانبه، فبدا لي شبيهاً بالامبراطور " ، وعلى السرير وجد هيجو هذه الرسالة معنونة الى مدام دي برني : " لا اقوى على تركيز افكاري ، افهم ان الموت  افضل نهاية لهذه الحالة التي اعيش فيها منذ ان غادرتي انت الحياة ، ولهذا صممت على الذهاب من هذه الدنيا الفانية "  .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

الصدر: العداء مع أمريكا أبدي ما دام ترامب موجوداً

البيت الأبيض: المساعدات الأمريكية أنقذت زيلينسكي من الموت

إدارة ترامب تطلب من العراق استئناف نفط الإقليم أو مواجهة العقوبات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram