الرئيسية > أعمدة واراء > السخافات الأربع

السخافات الأربع

نشر في: 3 نوفمبر, 2012: 06:29 م

الاستبداد الفكري أسوأ أنواع الاستبداد. الأسوأ على الاطلاق. فهو عملية قتل لروح الانسان. الروح هي الأفكار والعقائد والأخلاق والآداب والفنون والمشاعر والعواطف. والاستبداد الفكري هو استخدام سلطة الدولة في قمع حرية الروح، حجبها وفي المحصلة قتلها.

ان حكومات الاستبداد الفكري هي الشر الأعظم. فهي تحظر حريات الفكر والسياسة معا. في حين أن بعض أنواع الاستبداد السياسي يحظر السياسة وحدها. اي يحتكر السلطة ويمنع تشكيل أو عمل الأحزاب ولكنه يسمح بالحريات الأخرى. ملكيات وامارات أوروبية مطلقة عديدة بين القرن السابع عشر والتاسع عشر، مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا، سمحت بالحريات الروحية: الفكر والدين والأخلاق والفنون والاداب. مبارك فعل ذلك أيضا الى حد ما. وهذه الحريات هي رحم الديمقراطية. أساسها الذي لا تقوم للديمقراطية قائمة من دونه.

كل هذه النظم غير الديمقراطية فتحت المجال أمام المفكرين والمثقفين لنقد المجتمع، خرافاته وأساطيره ومسلماته ويقينياته. أخضعوا كل ثقافة وفكر وعلم مجتمعاتهم الى الفحص والمساءلة والاختبار. وضعوا كل شيء، عدا السلطة والسياسة، تحت مشرحة النقد، وبحماية الحكومات. ولما قطع الفكر شوطا مناسبا في نقد المجتمع، وتحرر من استبداد سلطات المجتمع، خاصة الكنسية، بدأ في توجيه قذائفه الى سلطة الحكومة، الى الاستبداد السياسي. وهذه المرة بدعم طبقات اجتماعية صاعدة، تريد نصيبا من السلطة، أو المشاركة فيها. وكانت محصلة المرحلة الأخيرة هي تحقيق الحريات السياسية، الى جانب ما كان قد تحقق اصلا من حريات فكرية.

هنا وصلنا الى الديمقراطية التي تفصل بين الجانب المادي من المجتمع، ولنسمه الجسد، وبين الجانب الروحي، ولنسمه الرأس. الجسد هو أنفس الناس وممتلكاتها وحرياتها المحددة في القانون. حماية أمن هذا الجانب المادي من المجتمع، أو جسد المجتمع، هو شغل الحكومة. إن مجال عمل قوات الشرطة والأمن والقضاء، أي السلطة، هو الماديات، هو ضمان "العدالة" التي ترسم المنظومة القانونية تفاصيلها المحددة والدقيقة. وهذا هو معنى حكم القانون. أما الرأس أو الروح، أي الأفكار والعقائد والأخلاق والفنون والآداب فلا دخل لقوة السلطة أو حكم القانون فيها. انها المجال الخاص بكل فرد أو جماعة أو طائفة في المجتمع.

أحد كوادر التيار الصدري كرر دعوة الحكومة لاستخدام قوتها في فرض ما سماه اللاءات الأربعة في الكاظمية (لا للتبرج، لا للغناء، لا للخمر، لا للقمار). هذه السخافات الأربع مظهر شنيع من مظاهر الاستبداد الفكري. فهي دعوة للتدخل بالقوة في أخلاق الناس، وفي احد الفنون ايضا، وهو الغناء. إن الأخلاق لا تتحسن بالقوة بل تسوء. والدين لا يسمو بل ينحط بالشرطة. وبالمرض وحده تسكت الأغاني. إن مملكة الروح كلها تتداعى اذا تسلطت عليها الحكومة.

الطوائف الدينية والحكومات في البلدان الديمقراطية لا دخل لها بخِلَق النساء وغناء الناس. ولكنها قد ترى في الخمرة مضرة، والقمار حماقة. فماذا تستطيع أن تفعل وهي من حقوق الإنسان؟ الطوائف تنصح بالابتعاد عنها. دينها النصيحة. والحكومات تحول المضرة الى منفعة، بزيادة الضرائب عليها، وجني أموال طائلة منها تخدم بها الطبقات الفقيرة في المجتمع. القمار في ألمانيا احتكار حكومي خالص. كل خسائر المقامرين تتحول على يد حكومة مسؤولة الى أرباح تعود بفوائد هائلة على المجتمع، خاصة الفقراء والعاطلين واللاجئين الذين كان في عدادهم يوما صاحب اللاءات الأربعة قبل أن يعود من كندا الى العراق.

هذا هو العمل الذي يرحم الناس وينفع الفقراء ويرفع الأخلاق ويعزز الدين. هذا هو العمل المسؤول.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: الزبير والمُستزْبِرون

العمود الثامن: من يحاسب ضباط الداخلية ؟

من يونيتاد الى المحكمة الجنائية الدولية..العدالة الدولية تحت المطرقة

هلال العيد.. جدل متجدد بين الفقه والعلم وثقافة الاختلاف

التحدي الوجودي للمشرق العربي

العمود الثامن: اربيل تقرأ

 علي حسين صبيحة كل يوم يجد المواطن العراقي المسكين نفسه محاصرا بأخبار الصراع على السلطة، بين الذين يجلسون على كراسي السلطة.. حالة غريبة وعجيبة. هذا المواطن بعد تجربة مريرة لن يصدق أكذوبة أن...
علي حسين

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

 علاء المفرجي الانتاج السينمائي الموجه للجماهير العريضة بهدف جني الارباح من شباك التذاكر، هو الظاهرة التي لازمت الانتاج السينمائي في كل مكان، وربما كانت السبب الأساس في تراكم خبرة السينمات التي أزدهرت فيما...
علاء المفرجي

مرور نصف عقد على رحيل رفعة الجادرجي 10 نيسان 2020

بلقيس شرارة منذ خمسة اعوام فارق رفعة الحياة، وترك فراغاً كبيراً في حياتي. فقد كان رفيق فكر منذ ان تعّرفتُ عليه، وارتبطت حياتنا بذلك التقارب الفكري الذي ثبّت الأسس التي بنيت عليها تلك الرفقة...
بلقيس شرارة

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

د. قاسم حسين صالح يعدّ الأمام علي اول خليفة وأول رجل دين في الأسلام ينتبه وينّبه الى صفة غاية في الأهمية يشترط توافرها في الحاكم هي ان يكون متمتعا ( بصحة نفسية وعقلية!).. وتعني...
د.قاسم حسين صالح
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram