تختزن الشعوب والأمم الذكية في ذاكرتها الجمعية، إلى جانب إنجازاتها العظيمة، حصيلة تجاربها التاريخية، بمآسيها ومحنها وخرائبها، وما انتهت إليه من استنتاجاتٍ ودروسٍ وعِبَر. وهذا الخزين من رصيد التجربة وما يترتب عليه من استنتاجات يتحول إلى أشبه ما يكون خريطة طريق وفناراً هادياً إلى ما يمكن أن تواجهه أو تتعرض له، وقد تدخل كقِيمٍ تُصاغ في الدساتير والمواثيق الأممية والمعاهدات الدولية . وليس خارج هذا السياق، ما نصت عليه كل مواثيق الأمم المتحدة من حقوق الإنسان ونبذ التمييز بكل أشكاله، وشروط العمل، وحقوق المرأة، والأطر القانونية التي تحدد العلاقات بين الدول والشعوب، وحماية البيئة، وتوزيع الثـروات والمياه بين البلدان المتشاطئة. ومن بين أنبل ما اعتمدته الشرائع الأممية حق الأمم في تقرير مصيرها وسُبل ضمان ذلك .
وفِي كل حالٍ من هذه الأحوال، أكدت تجارب الشعوب والأمم اعتماد العقل والحكمة والمصالح المشتركة. والأهم من ذلك كله الانطلاق من قيم التشارك والتسامح والمصالح المشتركة، في إطار الخيار السلمي، ورفض العنف واللجوء إلى القوة تحت أي ظرف كان.
وذاكرة العراقيين " داميةٌ " بأهوال تجاربهم وما تعرضوا له من حروبٍ واستباحاتٍ وتنكيلٍ، لم يكن لهم دورٌ في إقرارها، ولا في أهدافها أو نتائجها، وإنما كانوا مجرد أدواتٍ بلا إرادة في تنفيذها، ووقوداً مجانياً في المضي فيها، بمشيئة الأنظمة والحكومات والطغم الحاكمة الاستبدادية، ويكفي استرجاع استباحات ثلاثة عقود وبضع سنوات من عصف مرحلة البعث، ونحو عقدٍ ونصف العقد من " النظام الديمقراطي".
في العراق الجديد، حيث عاش العراقيون بعد الحروب الداخلية والخارجية، محنة المواجهات والتصفيات الطائفية والمذهبية العمياء التي مزقت نسيج المجتمع العراقي، وعزلت مكوناته في كانتونات طائفية، ورسمت لها " حدوداً افتراضية" داخل حدودٍ دولية مستباحة لا ولاية وطنية حقيقة عليها في واقع الأمر. وقد جرى تكريس هذا الواقع بنهجٍ وسياساتٍ وتدابير منهجيةٍ، منذ اللحظات الأولى لسقوط النظام السابق، وتواصل ذلك دون توقف حتى الآن. ويكفي دليلاً دامغاً واحداً على ذلك فيما يُعبِّر عنه بوضوح فشل تحقيق مصالحة وطنية مجتمعية شاملة، والإصرار على تقديم ولائم " معجون المحبّة " المسموم ، بديلاً عنها. وما يُعاد تدويره في الموصل المحرَّرة والأنبار وصلاح الدين من ممارساتٍ وتجاوزاتٍ ظلّت مدار تحذيراتٍ مخلصةٍ عشية سقوطها في عهدة داعش، إنما هو نذير شؤمٍ ودليل إصرارٍ على نهج " تفكيك " العراق " وتمزيق نسيج المجتمع العراقي .!
إنّ طبول الحرب ودعوات الكراهية والاحقاد تتصاعد دون يقظةٍ وانتباهةٍ للدوافع الدفينة التي تتستر خلفها، وتُغذّيها وتُسعّر نيرانها. وإلا لماذا يجري الصمت من جميع الأطراف، وبضمنها أوساط الحراك المدني والقوى الديمقراطية وذوو النزعة الإيجابية داخل الكتل الحاكمة ومنبر الجمعة، عن مُضي الحاكمين في نهج الانفراد والتحكم والتضييق على الحريات والممانعة "البرلمانية" لإقرار التشريعات الدستورية الضامنة لإعادة بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتشذيب ما جرى إمراره من قوانين تتنافى مع ذلك ، وتؤسس لدولة دينية طائفية إقصائية؟ ولماذا لا يجري التساؤل عن مدى علاقة الدعوات " المفتعلة " ضد الإلحاد، والتحريض على الشباب و"ممارساتهم المخلّة " واستعادة بطولات التصدي للشيوعية في التماثل التاريخي مع البعث؟ أين كل هذا من ادّعاء تكريس القيم المدنية وإرسائها في نهج الدولة وسياستها؟
تتلازم مظاهر التصعيد السياسي،
وضجيج طبول الحرب والكراهية مع قرار الإقليم بإجراء الاستفتاء على تقرير المصير. وهذا القرار لا يلقى القبول لدى الحكومة الاتحادية ولا من قبل التحالف الوطني ولا من اتحاد القوى ومن جماعاتٍ كردية، بل حتى حزب البعث أصدر بياناً مُدوياً بالرفض .!
هذه المواقف لها مسوغاتها وخلفياتها الإسلامية أو القومية، ومن حقها أن ترفض وتحتج، ولها سلطة القرار في اتخاذ السياسة التي تجدها مناسبة في مواجهة الإقليم، لكن هذا الحق يجب أن يُمارس بوسائل السياسة السلمية والدعوة للحوار البنّاء على قاعدة مشروع بديلٍ قابل للنقاش والتفاعل. بل إنّ السلطة السياسية (الحكومة الاتحادية) بالقوى التي تتمثل فيها وتدعمها، هي صاحبة القرار، ويُفترض فيها كما تعلن أنها " ممثلة للعراقيين دون استثناء" فتكون حاضنة لهم تُبرهن على حماية مصالحهم وحقوقهم وتبادر للتفكير وابتكار حلول وبدائل لهم، وترفض وتمنع كل دعوة للمواجهة وإعادة إنتاج السياسات التي مارستها الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة ومثلتها خير تمثيل سلطة البعث و"القائد الضرورة" المقبور، وكل ما كان في أساس نهجه وسياسته ،وممارساتها ما تزال بادية للعيان، والبعض من الطبّالين يعيدونها إلى الاذهان، فيما يتناسون عن عمد وسابق اصرار ويريدون للآخرين أن ينسوا ما اقترفته أيديهم من آثام وما تسببوا فيه من كوارث ومحن ليس الاحتلال الداعشي لثلث البلاد وجريمة سبايكر ومجزرة الفساد سوى غيض من فيضهم!
على العراقيين الوطنيين بكل انتماءاتهم وكياناتهم تنشيط ذاكرتهم الجمعية والتنبه واليقظة من تكرار ما قد تتعرض له البلاد من مآسٍ ونكباتٍ وكوارث، لا تخدم سوى مَنْ يريد المغامرة بمصالحهم وتحويلهم مرة أخرى الى وقود بلا ارادة لمطامعهم ونزعاتهم العدوانية المتأصلة فيهم.
إن تدوير الازمات وتحويرها وتصديرها أحياناً ، كما فعلها صدام حسين بشن الحرب على الجارة ايران ثم باحتلال الكويت، هي من بين خزين الذاكرة العراقية التي ينبغي أن لا تُنسى، بل تتوقد.