TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في حاجة الكاتب كما يقترحها أحد بناة العالم

في حاجة الكاتب كما يقترحها أحد بناة العالم

نشر في: 19 سبتمبر, 2017: 09:01 م

من يتعمق في قراءة هذه الرسائل، سيجد نفسه فجأة في عوالم غريبة، سكانها يبدون كما لو أنهم أسلموا أنفسهم  تماماً للعمل الفكري، هناك نظام منضبط بالتعبير وفي طريقة الاشتغال على العمل الأدبي، وثقة بقوة الفن، وشغف بالكتابة وهي تلبي نداء القلب وحسب. تلك هي طريقة الكتابة عند كل أولئك الذين يفرحنا نعتهم بـ "بناة العالم"، كما نعتهم "ستيفان تسفايغ"، في كتابه الذائع الصيت الذي سحر جيلي بصورة خاصة، والذي ربما يدرك أكثر من غيره معنى قراءة عمل عظيم ينتمي للماضي، ليكتب: "الحاضر يعاني دائماً من مسافة نظر غريبة للعين: المرء يتعرف حقيقة على كل ما هو كبير في البعد، على عكس صورة كل ما هو قريب، التي يشعر بها مشوشة ومجهولة".
والحاضر بما يخص الجزء الثالث من رسائل ستيفان تسفايغ التي نقرأها هنا، هو  أعوام 1920 – 1931، تلك الأعوام التي استطاع فيها كاتبها فرض نفسه ككاتب روائي، وصاحب منمنمات تاريخية، ومؤلف سير شخصية وكاتب مسرحي: "24 ساعة في حياة امرأة" و "خوف" و "اضطراب المشاعر"، ثلاثة أعمال مهمة في حياة المؤلف نشأت بين أعمال أخرى في هذه السنوات، من ضمنها مقالاته الثلاث الرائعة عن عالم الكلاسيكيين، التي تُرجمت عندنا تحت عنوان "بناة العالم"، بالإضافة للسير التي كتبها عن حياة "جوزيف فوكه" و"ماري أنطوانيت".
نحن نلتقي هنا إذن بفنان في قمة حياته الإبداعية، رجل في عقد سنواته الخمسين، يودعها في رسالة إلى أخيه ألفريد بمناسبة ميلاده الخمسين في 28 نوفمبر 1931، لا تخلو من تفاؤلية خاطئة ينهيها: "أقرأ للتو في الصحف الألمانية أشياء سافرة تقريباً. لكني أشعر إذا استدعت الحال بنفسي مستعداً بما فيه الكفاية، لرمي كل أثاث البيت كي أبدأ مرة أخرى من جديد: كأولاد لأبينا تعلمنا منه شخصياً طريقة معينة بالعيش المتواضع. بإمكاني أن أعيش مرتاحاً في غرفتين، والقليل من السيجار، مع زيارة المقهى مرة واحدة في اليوم، أكثر من ذلك لا أحتاج شيئاً. لذلك من غير الداعي أن يقلق المرء نفسه".
ربما ما كتبه هنا كان محاولة منه لتهيئة نفسه للحياة التي سيعيشها بعد ثلاث سنوات من كتابته تلك الكلمات، عندما سيكون عليه الذهاب الى المنفى، إلى انكلترا أولاً، ثم ليرحل بعدها بعيداً، حتى البرازيل، لكن ليس بعيداً بما فيه الكفاية، لكي يهرب من حب العودة لأماكن طفولته والشوق لرؤية أصدقائه، والحرب. ربما ذلك هو التفسير الوحيد، أو أحد التفسيرات لسبب انتحاره مع زوجته في العام 1942، في البرازيل. إذن فقط عشر سنوات بقيت له للحياة بتواضع، حتى كتابته آخر رسالة في هذه المجموعة – أنه بالفعل أمر يدعو للعويل! -، والتي نقرأ فيها تلك الجملة التي تفوق كل شعر: "أحيي كل أصدقائي، ليروا قدر ما يستطيعون بزوغ الفجر بعد ليل طويل! أما نافذ الصبر، أنا، فأرحل سلفاً، قبلهم"، كتب في رسالته الأخيرة.
من الصعب على المرء الغاء الصورة السوداوية التي دمغت رسائل سنوات الحرب تلك وبوقت مبكر، بل حتى ستيفان تسفايغ ذاته حدس ذلك: "ربما أنا متشائم جداً. لكن حتى اليوم كانت توقعاتنا الأكثر سوداوية تُكتسح دائماً من الواقع" كتب في عام 1921. بعد ذلك بعام واحد قُتل صديقه "راتيناو": "لم أرَ بأكثر سوداوية أكثر من اليوم: الأمر الواقع يقول، هو ما زال هناك من يصيد المفكرين في ألمانيا، كما يفعل مع الأرانب...." و"أن ما يحدث في ألمانيا، يفوق كل التوقعات المحزنة. جنون على جنون!" الرسالة معنونة لرومان رولان، الكاتب الفرنسي وداعية السلام الأوروبي، الذي كان يتراسل معه تسفايغ منذ عام 1910 والذي كان بالنسبة إليه نموذجاً عالياً للأديب الإنساني: "أن فضيلته"، كتب إلى مكسيم غوركي، "أحكامه العادلة، ونزاهته هي صفات نادرة على وجه هذه الأرض المسكينة، رغم أنه يصارع الشر بجسد عليل".
بكلمات قليلة لكن تفيض بالمشاعر يكتب ستيفان تسفايغ رسائله، وهو واثق من شركائه  بالمراسلة، بأنهم يفهمون صدقه بالكتابة، لا يهم الموضوع الذي يكتب عنه، حتى أنه لا يتردد من توضيح سبب عدم رغبته كتابة أي موضوع عن غوستاف فلوبير، وأن عذره: أنه يكتب إلى حد ما جيداً هناك فقط، "حيث أكون شغوفاً بالموضوع"، وهذا يحدث تقريباً مع كل موضوع يمس شغاف قلبه، وليس لذلك علاقة باسم الكاتب ومكانته، وذلك ما نجده بصورة خاصة في أجوبته على العديد من المؤلفين الشباب، الذين أرسلوا له كتبهم. في تلك المراسلات نلتقي بستيفان تسفايغ المخلص لملاحظاته، الذي لا يجامل، البعيد عن كل ديبلوماسية، سواء في مدحه أو نقده للعمل. مخلص وصريح في كل كلمة يكتبها، لا يخفي انفعالاته المباشرة أبداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram