لا أحد منا، طلاب ومدرسين يحمل في مدوناته الشخصية اليوم، صورة طارق شفيق الطاهري، الشاعر ومدرس اللغة العربية في مدارس البصرة في الحقبة الممتدة من من العام 1956-1990 من القرن الماضي، ولا أحد يتذكره. المدن العراقية ما زالت تقتل أبناءها، تهملهم وتتركهم واقفين على عتبات أبوابها ينتظرون. الببلوغرافيات والمعاجم أيضاً، تقتلهم حين لم يفرد أحدها عنه سوى أنه: "ولد في البصرة وتوفي فيها، عاش في العراق، عُيّن مدرساً في متوسطة المربد وختاماً في ثانوية البصرة، التي ظل فيها حتى وفاته، وكان عضوا في جمعية المؤلفين العراقيين".
ولأنه كان درّسني النحو في متوسطة النضال بالبصرة القديمة، لأنني ما زلت أتهجى صورته وهو يقف كل خميس وسط حشد الطلاب والمدرسين ينشد قصيدة جديدة، لأنَّ شعره لمّا يزل ماثلا، يسرحه الى الخلف، متطلعا الينا في الحصة بعيوناته الداكنة، التي تعلمت منها الكثير، وعرفت كيف ستكون عينا الشاعر فيما بعد، لأنه القصير النحيل الظامر بالبذلة الزرقاء، سأظل أبحث في مدونات العم جوجل وفي خرائط المدارس المفقودة عن صورة له، بل سأل زملاءه عن شعره وغربته وغيابه ونسيانه- كان محمود عبد الوهاب، الكاتب والقاص حدثني طويلا عنه وعن شقيقتيه، عن نتف نادرة في تاريخه الشخصي، وعن رغائبه ومعتقده وميوله- وهذا ما لا يمكنني البوح به.سانطوي على ذلك مثلما انطوى في غيابة الأيام والليالي الشاعر الذي كتب (جراحات قلب).
حتى وقت قريب، كنت أرى ديوانه الوحيد هذا(جراحات قلب) معلقاً في باطن باب مكتبة عبد هزّاع، مقابل الاعدادية المركزية بالعشار، معلقاً على خيط من البريسم، مع الاوراق والاقلام ودفاتر الرسم الملونة، يظهره في الصباح، كلما فتح باب المكتبة ويخفيه قبل غروب كل شمس. القلب الأحمر الذي يقطر الدم في صورة الغلاف والخطوط الراعشة وصورة الشاعر على الغلاف الاخير، وفي الاسفل تعريف بسيط بالكتاب (طبع بمطبعة حداد بالبصرة) .
الآن، وقد أنطوت قرون أربعة وشيّد أصحابُ المال فندق أور، في المكان الذي كانت المكتبة فيه، وأزيحت الى الابد أسوار شركة البردي المضغوط، التي كانت لصقه وشوهت المحال المرتجلة معالم المكان كلها، لكنني، ما زلت ألوي بعنقي الى صورة الكتاب المعلقة في باطن باب المكتبة كلما مررت من هنا. حروف كثيرة سقطت من قصائده، ما زالت تستوقفني. في الحقيقة، أنا لم أقرأ الديوان، بل وما تصفحته، أبداً، ما كنت أمتلك الجرأة لأسأله نسخة منه. كان مدير المدرسة (كاكا كمال) يصفه ببلبل المدرسة الغريد، وكنا نقف منصتين لإنشاده، كلمات وجمل طويلة، أسطر وأبيات كتبت موزونة مقفاة، أنّى لي أن أسأله؟
لم يبق من عناوين درس(الانشاء والتعبير)التي كان يقترحها علينا للكتابة بعبارته الجميلة:" أكتب في أحد العناوين التالية" سوى عنوان قصير واحد(ذبابة مغرورة) على كثرة العناوين تلك، ربما كانت عناوين لقصائد لم تكتمل في قلبه الصغير، أو أنه راح يجربها على اللوحة.ترى، بأية جملة سيشرع تلميذ في الصف الثاني او الثالث المتوسط ليكتب عن ذبابة مغرورة، أو حتى غير مغرورة، من منا كان يميز بين الذباب، وكيف ستبدو المغرورة من المتواضعة الخجولة. لم يكن الطاهري شاعرا مدرساً، بلبلاً غريداً، يقرأ قصيدة في خميس كل اسبوع بمتوسطة النضال ، التي تصلها عابرا جسر غربان بالبصرة القديمة كان ديوانه "جراحات قلب"، الذي لم أقرأه، ولم اتصفحه حتى، قد غير حياتي كلها.
"جراحات قلب" طارق الطاهري
[post-views]
نشر في: 19 سبتمبر, 2017: 09:01 م