كنت قد تأثرت كثيراً بأعماله ورسمت العديد من اللوحات التي تقترب من أسلوبه ومعالجاته، وها أنا أستعيد سنواتي الأولى مع الرسم، واتوجه لزيارة معرض (النظرة الغاضبة) للفنان أوتو ديكس في مدينة دوسلدورف، ورغم أن اجواء الكثير من لوحاته تذكرنا بالحرب وفظائعها، إلا انني سعيد بمشاهدة اعمالٍ كانت وستبقى قريبة من ذائقتي، اعمال هي بمثابة الروح التي تحيي الرسم وتعيد له عافيته من جديد. أحب الرسم حين يكون بهذه الطريقة المدهشة وانتمي للفن عندما يمنحنا هذه القوة من الحضور والتأثير والمعالجات. أؤمن كثيراً بروح الفنان التي اشعر بأنها تتجول في المعرض. الفنان الذي غاب بعيداً بعد أن أهدانا هذه القلائد والكنوز التي نَعْبُرُ الحدود عن طيب خاطر لمشاهدتها والوقوف أمامها، نتابع الخطوط هنا وحركة الفرشاة هناك ونستذكر الاصابع وهي تتحرك بدراية ليكتمل المشهد. هنا نَستَرِدُّ عالم الفن الذي لا يدخله إلا من كان على قدر كبير من الموهبة والدهشة والإبداع. بعد أن شاعت في بداية القرن الماضي، مدارس واتجاهات فنية مثل التعبيرية والوحشية والتكعيبية والمستقبلية، حَلَّت الحرب العالمية الاولى لتترك آثارها على الجميع، فعاد الكثير من الفنانين الى نوع من الواقعية التي اجتذبت الكثير من المتابعين، حتى أنّ بيكاسو قد رسم وقتها الكثير من الأعمال التي تقترب من الكلاسيكية، وهكذا فعل ايضاً دي شيريكو الايطالي والكثير غيرهما. وهذا ينطبق على ألمانيا إيضاً، والتي ظهر فيها تيار جديد سنة ١٩٢٥ من خلال المعرض الذي أقيم في مانهايم تحت عنوان الواقعية الجديدة أو (التعبيرية الجديدة) وقد اشترك فيه مجموعة من الفنانين على رأسهم ماكس بيكمان وجورج غروس بالإضافة الى اوتو ديكس. ولم يهتم هؤلاء الفنانون بالجمال الذي نراه في الشارع، لكنهم التقطوا شخصيات معينة تميل الى الفضفاضة والقبح، شخصيات تُذَكِّرُهُم هيئاتها بما تركته الحرب من دمار وإعاقة وخراب في الروح والشكل. انطلق ديكس مع هؤلاء من التعبيرية، ليقتربوا اكثر من واقعهم المرير الذي يعكس الغثيان الذي انتشر في كل مكان. وقد كان لهذا الفنان تأثير كبير في المجموعة، حيث كان يَمِدُّ لسانه نحو الجمال الذي عرفه وخبرهُ عامة الناس، ليقدم فناً مختلفاً. ضَمَّ هذا المعرض اعمال ديكس الأولى التي رسمها في دسلدورف بعد أن دَرَسَ الرسم هناك في بداية العشرينات بعد انتهاء الحرب، قبل أن ينتقل الى برلين. هناك في دسلدورف كان قد تعرف على يوهانا آي التي كانت صاحبة غاليري وتقوم بالكثير من المشاريع الفنية، وقد اهتمت به كثيراً وساعدته على النجاح وبيع اعماله، وهو بدوره كان قد رسمها في البورتريت الذي أقف أمامه الآن، والذي حظي بمكان خاص في المعرض. تظهر يوهانا في هذا البورتريت كبير الحجم بثوبها البنفسجي وجسدها الممتلئ، وهي تضع كفها الضخم على طاولة سوداء صغيرة وكأنها تستعجل الرسام للانتهاء من مهمته الشاقة في رسم امرأة بمكانتها، بينما تحيط بها من الخلف والجانب قطعة قماش حمراء كبيرة. امرأة تعرف ماتريد، وهذا ما تؤكده نظرتها الودود الواثقة التي تظهر من خلف زجاج نظارتها الدائرية الصغيرة. وبما أن ديكس قد دَرَسَ الطباعة أيضاً في دوسلدورف، فكان من نصيب المعرض مجموعة من اعماله الشهيرة التي نفذها بطريقة الليثوغراف، وهذه الاعمال تعيدنا الى ايام الحرب التي شارك فيها كجندي، ويظهر في هذه الرسومات، الجنود المذعورون الذين يضعون على وجوههم أقنعة واقية من الغازات، وقد قورنت هذه الأعمال دائماً بالطبعات التي تركها الفنان العظيم غويا والتي تتعلق أيضاً بالحرب. وسط المعرض يظهر بورتريت هوغو اورفرت مع كلبه الذي تنتصب أذناه وهو يفتح فمه وكأنه يستمع الى صوت خارج الغرفة أو ينتظر شخصاً ما، وهنا اعطى ديكس كل التعبير والحركة والاحساس للكلب اكثر من الشخص الجالس بجانبه. عُرِضَ في المعرض الكثير من البورتريهات التي ركز فيها على تعابير الوجوه ونظرات العيون وإشارات الأيدي، ووضع كل ذلك وسط مناخات تحيلنا الى الأيام التي كان فيها الرسم قوياً ومؤثراً وجميلاً أيضاً.
النظرة الغاضبة
[post-views]
نشر في: 22 سبتمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...