أقرأُ، ولستُ ببالغ بعد اتمامه في كتاب(الغجر)لمؤلفه السير أنجوس فريزر ومترجمه عُبادة كُحيلة وهو من منشورات المركز القومي للترجمة بالقاهرة.دراسة شاملة وموسعة عن الغجر في التاريخ. هذا الشعب الذي امتهن الترحال، ذوو البشرة الداكنة المشربة بالصفرة والشعر الأسود، الذي يرتزق من صناعة السلال وتجارة الخيل وقراءة الطالع وما الى ذلك، هؤلاء الاقوام الذي لا يُؤتمنون على شيء، فهم لصوص وقتلة وسحرة وجواسيس في نظر البعض، هم ذاتهم الذين قال فيهم الفردوسي(ت411 هجرية) في ملحمته إن بهرام جور طلب من شنكل ملك الهند أن يبعث له بموسيقيين ومُلهين بقوله:" إن الطبقات المِعوزة عندي تتعاطى النبيذ، دون أنْ تتعاطى معه الموسيقى، وهي حال لا يرضى عنها الاغنياء، لذا فانتخب لي من هؤلاء (اللورية) عشرة آلاف من الرجال والنساء وابعث بهم الي ليعزفوا على العيدان"
سأستدعي صباحاً شتوياً بارداً من العام 1965وأدخل صوباط أبي، في بستاننا، على الترعة المسماة الى اليوم في سجلات الطابو بأبي الخصيب بـ(أبو الكشك) والتي تأخذ ماءها من نهر العظيم السراجي الكبير، لأفاجأ بثلاثة رجال، من ذوي البشرة الداكنة المشربة بالصفرة، بهيئآتهم التي لم أر مثلها من قبل، حيث يمسك اثنان منهم بمنشار طويل ليقطعا شجرة التوت العملاقة، التي شاخت على النهر، وباتت حاجة أبي ماسة لها لتصبح على أيدي هؤلاء أذرع ومقابض ومفالق لما يحرث ويفتق ويشرح ويفلع من المساحي والرفوش والفؤوس والمناجل وهكذا، وقفت، أمعن النظر في قطع الجذع الصلد الغليظ وهو يتهاوى على الأرض ومن ثم لتضربه الفؤوس والمطارق والمشارط وليتشكل فيما بعد بأيديهم على هيئات عدة. عملوا لأبي كل ما يستعين به على اتمام فراتضه في بستانه من قطعٍ وحشٍّ وحراثة وزرع وصعود نخل، لكنه لم يسم هؤلاء بالنجارين، مع انهم نجارون محترفون.هل كانوا كاولية؟ نعم، هكذا كنت اسمعها منه.
في السنوات التي تلت، حين استويت شاباً، كامل الفحولة، كثير الماء، اخذني من الاصدقاء من أخذني الى(حي الطرب)ليس بعيداً عن سكة الحديد، التي تؤتى من الدريهيمة، حيث معسكر الجنود، وحيث تبين مدرجات ساحة طراد الخيل(الريسز)، هناك، ومن زقاق مترب في نهايته دار واطئة من الاسمنت، ومن بابها الخشب الهالك، ادخلتني إمراة سمراء، مشربة بصفرة وسوداء الشعر، أجعده، قالت: تعال. كان أحدهم يمسك ما يشبه الكمنجة ويعزف نغماً موجعا، لعله الترحال. وعلى سريرها اليابس، بشرشفه الوسخ ووسادته الوحيدة، انفقت بعض فحولتي وخرجت. اليوم أتذكر شجرة التوت، التي قطعها هؤلاء، ولا أعلم ما إذا كان خشبها من بستاننا أم لا؟ لا أعلم، أكان احد النجارين قد ترك بنتاً وحيدة على السرير، تتوهم عابرا أو تنتظر أحداً ما أو لعلها كانت تنتظر الولد الذي كنته ذات يوم.
الغجر،اللورية،التربادور،Gypsy،الغوازي،العوالم،الكاولية....... السحرة،قارئوا الأكف والنجوم، الذين كانوا يُمنعون من دخول الحانات في اوروبا حتى العام 1966 لكم وددت أن لا تمنعني حكاية شجرة ابي مع هؤلاء من استيعاب فصول الكتاب. ها انا، انشغل اليوم بالبحث عنهم في سكك المدينة، حيث كانوا يتجولون، لطالما صادفت بعضهم عند حائط من الطين، أو عند ترعة ما عادت تظللها شجرة توت عملاقة، لقد ضلَّ النجارون طريقهم، وما عاد أحدٌ من فلاحي ابي الخصيب مدينا لهم بشيء فقد تنازل الكثير منهم عن شغفه في الزراعة مثلما عاف أبناؤهم البحث عن متعة قصيرة في سكك حي الطرب.