TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "أنا" النرجسي و"الأنا" المتورمة

"أنا" النرجسي و"الأنا" المتورمة

نشر في: 24 سبتمبر, 2017: 09:01 م

نحن نقول هذا نرجسي لأنه يحب ذاته. ولكننا نخلط بينه وبين صاحب "الأنا" المتضخمة، أو المتورمة، والتي نعتبرها مرضية بالضرورة. هذا الخلط أساء في الموقف النقدي إلى الشاعر النرجسي بسبب مماثلته مع شاعر الأنا المتضخمة. إن هدف ملاحظتي النقدية هذه هو إلقاء الضوء على ما يمكن أن يسيء إلى فهم شاعر كأبي نؤاس، بفعل مماهاته مع شاعر كالمتنبي.
إن شاعر الأنا النرجسية ينصرف في احتفائه إلى جسده، بكل ما ينطوي عليه هذا الجسد من حواس وروح وعقل. هذه العناصر الحية جميعاً تتمحور حول فيوضات الحب وحده. أبو نؤاس يحب ذاته، ويُسرع إلى ملذاته، وكل ما يتماس مع ذاته. يحب الآخر المُنتخب، والحياة المُنتخبة. ولعلّه قادر عن رغبة على جعل كل ما في الآخر وكل ما في الحياة قابلاً لفيوضات الحب. يقول أبو نؤاس في واحدة من قصائده:
الحبُّ فوقي سحابٌ    والحبُ تحتي سيولُ
فذا يسيخُ برجلي    وذا عليَّ هطولُ
وللصبابةِ عندي    محلّةٌ وقبيُل
وليس حولي إلا    رياحُ حبٍّ تجولُ
أمام فيض الحب هذا لا يمكن أن تجد ما تأخذ على شاعره. أنها عاطفة حب تشمل ذات القائل وذات الآخر معاً. وتفيض على الحياة ذاتها. إنها في جوهرها قوة خيرة، لا تشوبها ضغينة، ولا يتبطنها شك ولا ارتياب. في الشعر الأمريكي نجد ولت ووتمان، المؤتَمن على عاطفة الحب، التي تنطلق من حب ذاته أولاً، ثم تفيض كريمة على الآخر وعلى الحياة. ويمكن استيعاب ظاهرته حتى لو اقتصرت قراءتُك على قصيدة شهيرة واحدة من قصائده الكثيرة، هي قصيدة "أغنية نفسي".  
في المقابل هناك شاعر الأنا المتورمة، التي تسعى باتجاه السطوة والسيطرة، لا باتجاه الحب. ولذلك تعتمل فيها مشاعر التعالي، والحطّ من شأن الآخر وإلغائه. إنها عبوة للمشاعر المرضية: ارتياب، وسخط، وضغينة تنطلق من أنا تحار بكيفية التعبير عن تعاليها. فهي نبويةٌ حيناً، وحيناً أكبرُ من حجم الحياة. وهي في كلتا الحالتين إيهامية؛ قد يسهل عليها إيهام النفس، ولكنها تتشكك بشأن قدرتها على إيهام الآخر، ولذلك تظل محتقنة، مرتابة. الشعر العربي يزخر بهذه الأنا المتورمة، الأنا النبوية، تراها متربصة دائماً بقصائد الشعراء، تُطل برأسها كأفعى سامة.. وهي محرجة أبداً، للعقل والروح المتعافيين. وهي محرجة أيضاً في ترجمتها إلى لغات لم تألفها. ولعل جذورها تمتد في عربيتنا إلى غرض "الفخر"، حتى لو كان فخراً غير فردي، كالفخر بالقبيلة أو بالعقيدة أو بالأمة.
هناك طرف ثالث يتعارض مع الذاتين النرجسية والمتورمة. يسعى أبداً إلى تحجيم الأنا، وأحياناً إلى ملاشاتها. "أتصاغر، حتى لأدنى الثواني تحار بمقدار حجمي.." يقول الشاعر. إنه يجدها عارضاً في طريق المسعى الذي يولّد "البصيرة"، القادرة وحدها على الرؤية الحقة. أو يجدها، شأن المتصوفة جميعاً، حجاباً يفصل بين الكائن الانساني وبين الله.    
إذا اخترنا أبا نؤاس للأولى، والمتنبي للثانية، فأبو العلاء خير ممثل للثالثة.      
هذه الأخيرة لا طموح لديها، بل تُغني الرؤية. الشاعر ريلكة كان يقلل من شأن الإرادة، والسعي إلى الشهرة، ويحتفي بطواعية التصبر والعزلة والانفتاح. تي أس أليوت شديد الحرص على تلاشي أنا المتحدث داخل القصيدة. "شعراء المتاهة" جميعاً يحذرون "الأنا". يحذرها السياب، البريكان، صلاح عبد الصبور... أسوة بشيخهم أبي العلاء. "شعراء الراية" يتعلقون بأذيال "ذاتهم" المتضخمة، بفعل سعيهم الدائب إلى إعلاء شأن "الفكرة"، لا الانسان، وإلى إرضاء أكبر قدر من الجماهير، ومن ثمّ إلى الشهرة والمجد.
فإذا قال المتنبي: "أنا ترب الندى ورب القوافي.."، يقول أبو العلاء: "أنا مني كيف أحترس..". وإذا قال أدونيس: "قادرٌ أن أغيّر، لغم الحضارة هذا هو اسمي.."، يقول عبد الصبور: "من أين آتي بالكلام الفرح..".. والشواهد كثيرة في العربية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram