TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الهايكو الجنسيّ والبعد الروحانيّ

الهايكو الجنسيّ والبعد الروحانيّ

نشر في: 25 سبتمبر, 2017: 09:01 م

بعدما نشر العدد الأخير من مجلة (تاتو) ترجمةَ قصيدةٍ يابانية أيروتيكية من نمط الهايكو، للشاعرة تشيو – ني، القرن الثامن عشر، وددنا إيضاح مغزى الهايكو على إحدى وسائط التواصل الاجتماعيّ مستعينين بالصور. لكن لم يسعفنا الوقت، ولأنا فضّلنا الكتابة هنا عن الموضوع.
هايكو أيروتيكي؟ ولكن هل أيروتيكيّ بالمعنى الذي يفوح من الكتابات العربية، النسوية خاصة؟ وإذا لم يكن له نفس المذاق فلأيّ سبب؟ نلاحظ أن الشاعرة اليابانية المذكورة كانت راهبة بوذية (بونزو)، اي أنها متشبّعة بروحانية فلسفة الزن، وهو بُعْد ينقص غالباً الكثير من شاعرات الأيروتيكية العربية. فالأيروتيكا العربية تصير رديفاً للجنسانية الساخنة أو تعبيراً عن المكبوت الجنسيّ. هل ثمة بُعْد روحيّ وعرفانيّ في الأيروتيكا؟ نعم، بالطبع، وهي قضية لا مجال لنقاشها في هذه الفسحة. هذان الأمران يجعلان من شعر الهايكو، أياً كان موضوعه مختلفاً، نكاد القول اختلافاً جذرياً عن نسخته في الكتابات العربية. "الهايكو العربيّ" يسبح في عالم "مكتمل المعالم"، بينما مبدأ "غير المُكتمِل" inachevé جذريّ بالنسبة للهايكو.
في الفن المعاصر يجري الحديث عن جمالية غير المكتمل Esthétique de l'inachevé ويُقصد به العمل التشكيليّ، نحتاً أو رسماً، الذي لم يُكمله الفنان بإرادته، أو بعدم قدرته على إكماله (لا نتكلم عن قصور فنيّ أو تقنيّ هنا). إذن هو تقنية فنية تفضّل التركيز على كثافة الإنجاز وآنيته أكثر من التركيز على إتمامه. أنه محاولة لتسليط الضوء على "الحمّى" الفنية بآنيتها، تمَّ العمل أو لم يتمّ ليس مهماً قدر هذه (الحمى). في الهايكو، مبدأ "السابيّ هو بالضبط مبدأ الزائل والمؤقّت والجمال الصارخ (الآنيّ، اللحظوي)، وجماليات الأشياء القاصرة عن الكمال (التي لا تستطيع الاكتمال)، سريعة الزوال وغير التامة. هذا موقف جماليّ إزاء العالم، ينجم عنه شكل جملة الهايكو التي تبدو متشظية ظاهرياً (غير مكتملة) وصارخة الجمال (أي تومض وميضاً خاطفاً). مبدأ (عدم التمام) في الوجود قد يُفسّر قِصَر أبيات الهايكو: عدم تمام المعنى التقليديّ والوقوف بدلاً عن ذلك على الإيحاء بشيء أعرض منه، وربما عدم اكتمال الإيقاع (لا نعرف اليابانية). وهذا أمر يبدو مستبعداً بعض الشيء في الشعر العربي الحديث. غالبية ما نقرأه عربياً في شرح الهايكو محصور بالومضة والاختصار والتكثيف، وهي أمور لا تشرحه لأنها مشتركة في مختلف أنواع الشعر.
الشعر العربيّ صارم، ويطالب بوحدة شكلية (قديماً كان البيت الشعري ذو المصراعين) ويبحث عن معنى، ظاهراً أو مستتراً، حتى لو كان يقع في (مفارقات الألفاظ والمعاني) كما هو في القصيدة المنثورة اليوم.
مبدأ السابي (الزائل والمؤقت) الجماليٌّ يمسّ شعر الهايكو وكل ممارسة فنية وتشكيلية، ويتجلى  مثلاً في تقنية الخزف اليابانيّ وألوانه وملمسه، خاصة الخزف المسمى (راكو raku) المكتشفة في القرن السادس عشر من أجل طقوس الشاي الرفيعة التي هي أيضاً تعبير عنه. فأين نحن من الدارميّ العراقيّ القائل: "شربت الشاي مرمر بستكانه - ويطعم الجاي خالص بستكانه"، مع احترامنا العظيم للدارمي الذي نحب خيرة نماذجه.
لم نعرج على فكرة البلى والقِدَم الذي يوقعه الزمن على الأشياء، وهي بالضبط في نطاق مبدا (سابي - وابي) الهايكويّ والتي تجد في "ترميمات الخزف" أو جماليات "الخزف المكسور المُرمَّم" تمثيلاً لها. شعر الهايكو نوع من الترميم.
يتحقق المبدأ في العمارة اليابانية التقليدية كذلك، فيقوم على البساطة والاختصار. اليوم، في الغرب، يُستلهم المبدأ في تصاميم الديكور الداخليّ الذي هو تجسيد لهايكو فضائيّ: علاقات الفضاءات الداخلية.
استخدامنا الواسع للحاجيّات اللمّاعة المصنوعة في الصين، وسكنانا في عمارة جاهزة الصنع أو متماثلة المخطّطات،… الخ، دليلان فقط على علاقة ليست من نمط علاقة شاعر الهايكو بالوجود.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram