في محاضرة سبق لي تقديمها في مؤتمر اللسانيات قبل بضعة أعوام (في التاون هول – إيلينغ / لندن) أثنيت على جهود الباحث العراقي الدكتور هادي حسن حمودي في نقل تحقيق التراث العربي من وضعيته الجامدة إلى حركية إحيائية للتراث، لا تحقيقه فحسب واستشهدت على ذ
في محاضرة سبق لي تقديمها في مؤتمر اللسانيات قبل بضعة أعوام (في التاون هول – إيلينغ / لندن) أثنيت على جهود الباحث العراقي الدكتور هادي حسن حمودي في نقل تحقيق التراث العربي من وضعيته الجامدة إلى حركية إحيائية للتراث، لا تحقيقه فحسب واستشهدت على ذلك بكتابيه (العين للخليل) و(الجمهرة لابن دريد) أما الأول فقد صدر في مسقط سنة 1994 ميسراً للباحثين، إذ أعاد ترتيبه على الألف باء مع تصحيحه وتخليصه مما علق به من تصحيف وتحريف عبر القرون. وأما الثاني فقد اطلعت على دراسات أولية عنه في بعض الدوريات العربية. ثم يأتي هذا الكتاب ليؤكد ذلك المسار.ذلك أن الذين اهتموا بتحقيق كتب التراث العربي انقسموا إلى ثلاث مجموعات: مجموعة اكتفت بنقل نصّ الكتاب من غير عناية ولا دراية. ومجموعة نقلت نص الكتاب كما كان عليه في الأزمنة السابقة، وهذا ما عُرف بتحقيق التراث. ثم تظهر جهود الباحث العراقي د. هادي حسن حمودي لتنقل التحقيق إلى إحياء التراث وذلك بتحديثه إن ساعدت مادة الكتاب على ذلك.وبظهور كتابه (أبو الحسن الهنائي) وهو عالم هاجر من عمان إلى بغداد ثم انتقل إلى مصر فأسس المدرسة اللغوية المصرية وتوفي في سنة 310 للهجرة، فقد تجدّد منهج الإحياء بوضوح.
تضمن الكتاب عدّة مقدمات ثم المعجم. يثير الانتباه الفصل الثاني من مقدمات الكتاب حيث يذكر الباحث أن فريقاً من محقّقي كتب التّراث العربيّ التزموا طريقة ليس فيها نفع كبير لكُتب التّراث، ولا للنّاس المتلقّين لتلك الكتب في هذا العصر. وخاصّة، في المنهج وفي الحواشي والهوامش التي يضعونها للكتاب الذي يحقّقونه. مقرراً أن المقصودين بالحديث يعمدون الى وضع حواشٍ وهوامشَ لا غناء في معظمها، واتّخذ جمهور غفير منهم من الحواشي وسيلة لتضخيم النّصّ التراثي وتوسيع حجمه إلى أضعافِ أضعاف حجمه الأصلي، لأهداف لا علاقة لها بفن التحقيق، حتى أنّ نصّاً تراثياً من ثلاث صفحات فقط، جعله محقّقه خمساً وأربعين صفحة بالتمام والكمال، أي انّه وضع عليه اثنتين وأربعين صفحة من الحواشي والهوامش، بلا نفع ولا فائدة. فحين يذكر المؤلّف التراثي بيتاً من الشعر لجرير، مثلاً، يسرع المحقّق الى وضع البيت في أعلى الصفحة، ثمّ يضع خطّاً يفصل بين المتن والحاشية، ويملأ الصفحة كلّها بأسماء الكتب التي يزعم أنّ البيت ورد فيها. ولا ندري ما وجه العلم في انتهاج هذا النّهج؟! ولا ما الفائدة التي يجنيها المتلقّي من وراء هذا الجهد الضائع، إنْ كان ثمّة جهد أصلاً!
ويقرر السيد حمودي: أنه اذا كان الذين يفعلون ذلك يريدون استقصاء الكتب التي روتْ ذلك البيت فانّهم لن يستطيعوا الى ذلك سبيلا لأنّها أكثر من أن يحيطوا بها. هذا إذا كانوا قد عادوا حقّاً الى الكتب التي يذكرونها، فإنّك حين تعود الى تلك الكتب، ستجد أنّ الإحالات مغلوطة، وأنّ البيت غير موجود فيها، وإن كان موجوداً ففي صفحات أو أجزاء غير التي حدّدوها. وهذا من أسوأ أنواع التدليس واستغفال القارئ. ونعتبر هذه الممارسة ظاهرة من ظواهر التخلّف، وسبباً لاستمراره وتجذّره بمرور الأيّام، على عكس ما هو مفتَرَض فيمن يتصدّى للتحقيق والبحث العلميّ.
ومن المحقّقين من تأخذه رغبة التطويل لا التطوير، فإذا به يضع في حواشي الكتاب نصوصاً من كتب أخرى لا علاقة لها بالنّصّ المحَقَّق نفسه، وكأنّه يأبى إلاّ أن يفيض على القارئ بما رآه في تلك الكتب. ومن جهة أخرى، لا ندري ما أهمّية أن تُخَرَّجَ شواهد كتاب قديم على كتب متأخّرة عن زمن تأليف الكتاب موضوع التحقيق. ويعطي الأستاذ الدكتور هادي أمثلة على ذلك، منها قوله: فها أنت تجد من حقّق كتابَ نَحْوٍ ألّف في القرن الثاني للهجرة ينقل لك في الحواشي إحالات لما ظهر بعد ذلك بقرون. وكلّ ذلك مِمّا لا نراه إلاّ مضيعة للوقت، وإثقالاً للكتاب التراثيّ بما يضرّ ولا ينفع.
ويذكر الدكتور المحقق أنه رأى بعضهم وقد شرح في الحاشية ألفاظاً لا يجهل معناها طلاّب الدراسة المتوسّطة في أيّامنا هذه، بل حتّى أولئك الذين لم ينالوا أيّ حظّ من التعلّم والتعليم. فمن طريف ذلك أنّ كتاباً تراثياً في النحو جاء في متنه: (وتُجمع اليد على الأيدي) فإذا بالمحقّق البارع يسارع الى وضع حاشية تَمدّدت على سبعة أسطر ليقول ما ملخّصه، إنّ اليد عضو من بدن الإنسان، ولا ندري هل أخبره أحد أنّ مِنَ الناس مَنْ يعتقد أن اليد، هنا، وحشٌ من وحوش الغابات، حتّى يُضطرّ لبذل جهد كان يجب أن يضعه في موضع نافع له وللتراث وللنّاس!
وكما يقرر السيد الباحث فإن مسألة اختلاف نسخ الكتاب المحقَّق أعطيت أهمّية أكبر بكثير مِمّا تستحقّه، فإذا بها تضفي على الحواشي والهوامش جوّاً من الكآبة المستطيرة، إذ تستغرق معظم أرقام الحواشي من غير نفع بيِّن للقارئ. فالقارئ لا يهمّه إلا النّص الصحيح السليم، فأمّا اختلاف هذا الناسخ عن ذاك الورّاق في سماع لفظ أو رسمه، فهو أمر لا يعنِيه من قريب ولا من بعيد. وتلك مهمّة المحقّق أن يقارن بين النّسخ وأن يختار منها النّسخة الأمّ، وأن يعتمد عليها في تثبيت النّص، فإن وجد فيها إخلالاً أو خللاً أو خطأ، ووجد له تصحيحاً أو تقويماً في نسخة أخرى، فله أن يوازن بين الاثنتين وأن يثبّت في النّص العبارةَ التي يراها أقرب من غيرها الى أسلوب المؤلّف، من دون أن يُتعب القارئ ويُشغله بما في تلك النّسخ من اختلافات. وتزداد خطورة ذلك المنحى من "التحقيق" حين نرى "المحقّق" يثبّت في الهوامش والحواشي، اختلافات لا تَمُتّ الى الأصل المحقَّق بصلة.
* أستاذ عراقي – مركز الدراسات العربية - باريس
جميع التعليقات 2
د. سالم بن عمار
مقال رائع يكشف المستور ويعري التزييف ويحيي عينا من عيون التراث.
د. هشام حسن
نحن العراقيين (أو العراقيون على رأي محقق الكتاب) لا نحسن تسويق إبداعات كتابنا ومفكرينا للأسف. هذا واحد من الكتب الرائعة قرأت تقويمه للمسخ الحاصل لكتاب متجّد الهنائي ولم أر عنه إلا مقالات قليلة أقل مما يستحق. شكرا للمدى اهتمامها بإبداعات الباحثين والمفكرين