قبل عام 2003 حين كنت أدخل المقبرة وبرفقتي والدتي لزيارة الموتى، كان هناك بعض التنظيم والفسحة للسير، إن كان بين القبور أو (المقابر الصغيرة) لكل عائلة أو الشوارع التي تربط أرجاء اكبر مقبرة في العالم، قبل أيام رافقت والدتي في زيارة لقبور موتانا، ثمة فوض
قبل عام 2003 حين كنت أدخل المقبرة وبرفقتي والدتي لزيارة الموتى، كان هناك بعض التنظيم والفسحة للسير، إن كان بين القبور أو (المقابر الصغيرة) لكل عائلة أو الشوارع التي تربط أرجاء اكبر مقبرة في العالم، قبل أيام رافقت والدتي في زيارة لقبور موتانا، ثمة فوضى غريبة بالمقبرة، شوارع مقطعة وأخرى مسيّجة وثالثة حجزت لهذا وذاك من دون وجه حق أو حجة قانونية، فالقوة والوقاحة هما من تفرضا نفسيهما في هذا الأمر..
وسط الحزن الذي لفّني وأنا أشاهد صور الشبان من الشهداء تدور في أرجائها، ربما كانوا يتبادلون الحكايا والحزن على سنين عمرهم. أبو سجاد يعمل بالمقبرة منذ سنين، كان يسهم مع مجموعة من الناس بدفن أحد الموتى، مهمة أبي سجاد قراءة بعض الآيات القرآنية والقبول بما يُهب إليه من مال، قبل مغادرة المقبرة يعود لقبر ولده يقرأ الفاتحة ثم يعود لبيته. أبو سجاد أشار الى شارع شبه رئيسي بالجزء الذي يتواجد به من المقبرة والذي تم الاستيلاء عليه قبل أيام وتسييجه، كما توضح إحدى الصور، ما تسبب بإعاقة زوّار المقبرة والوصول الى قبر موتاهم.
الحاجة أم وليد قادمة من بغداد لزيارة قبر ولدها الذي استشهد في معركة تحرير بيجي قبل عامين، استغربت مما رأته من تجاوز على حرمة بعض القبور واقتطاع الشوارع وتحويلها الى مقابر أو بيعها عبر مكاتب (الدفانة) كما أبدت ذهولها من حالة النهب التي وصلت الى المقابر، متساءلة، ألم يفكر هؤلاء من أين يمر الناس وكيف سيكون الحال أيام الأعياد وزيارة القبور، لكن ما نفع القول، في وضع تحولت به السرقة والنهب الى مفاخرة ومباهاة من البعض..
ضياء الفتلاوي يعمل كاسباً في شارع الرسول، استغرب سكوت المحافظة ومجلس المحافظة وعدم تدخلهما لمنع تلك التجاوزات، بل السرقات، حسب وصفه، واصفاً ما يحدث بالأمر المعيب والمشين بحق مقبرة لها تاريخها وأهميتها، منوهاً الى ضرورة تبليط الشوارع الرئيسة والفرعية لمنع التجاوزات والاستيلاء عليها وبيعها للمواطنين من دون وجه حق..
ثمة حكايات تحدث في المقبرة لايمكن استيعابها، كما قال محمد الكرعاوي، الذي ذهب ذات يوم لزيارة قبر والدته، لكنه صِدم بوجود قبر فوق قبرها، حتّى أنها شك بأنه أخطأ القبر. فيما بيّن مهدي الموالي، يعمل بنقل الجنائز، أن هناك اكثر من عملية استيلاء على الشوارع، إن كان من قبل الأحزاب وممثليها أو مكاتب الدفانة المتنفذة في المقبرة، الذين يعودون يبيعون تلك الشوارع الى المواطنين بأسعار كبيرة على أنها أرضهم.
سلام الموسوي، موظف حكومي، عزا ذلك الى الفساد الذي ينخر بمختلف مؤسسات المحافظة، وبشكل خاص، بلدية النجف التي تتحول كل عام من حزب الى آخر، كل واحد منهم يستولي على مايريد من الأملاك العامة. لافتاً الى أن، جزءاً كبيراً من متنزهات المدينة، تحولت الى الاحزاب عبر عقود وهمية أو أسعار رمزية. فيما دعا الحاج حسين الشمري، المرجعية الدينية، الى التدخل وايقاف مايحدث في المقبرة من تجاوزات وعمليات نهب وسرقة للمال العام، مؤكداً، لو استمر الأمر على ما هو عليه الآن، لن نجد بعد فترة وجيزة أي شارع في المقبرة ...
وأنا أغادر المقبرة، ليس ثمة شيء يمكن قوله غير الاستشهاد بالمقطع الأخير من قصيدة الشاعر موفق محمد "لا تكسروا الأنهار". سأزور الشهداء القديسين، وهم يفركون راحاتهم ندماً، فقد قتلوا من أجل أن يتربع (شعيط ومعيط) على صدورنا، بسياراتهم الرباعية الدفع وأنواتهم التي ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وأقول لهم: طبتم موتاً، فما زال أبناؤكم يشحذون في الإشارات الضوئية، والحكومات تسميهم شموخاً أطفال الإشارة، ونساؤكم يتقوسنَ بين التقاعد والعقاري، وأمهاتكم في آخر صيحات الموتِ تلالاً من العباءات السود، تطير نائحةً إلى السماء.