الامتزاج بالله عشقاً، هو سبيلهم الوحيد للتواصل مع الرب، فقد تغاضوا عن الحركات الجسدية التي يحفظها الجميع عن ظهر قلب، ويؤدونها دون يقينٍ وإيمانٍ داخلي، كذلك تركوا تلك الكلمات، والنصوص التي وجدت في كتب يقرأها الجميع إلى الله، ولكن دون امتزاجٍ وفهمٍ ويق
الامتزاج بالله عشقاً، هو سبيلهم الوحيد للتواصل مع الرب، فقد تغاضوا عن الحركات الجسدية التي يحفظها الجميع عن ظهر قلب، ويؤدونها دون يقينٍ وإيمانٍ داخلي، كذلك تركوا تلك الكلمات، والنصوص التي وجدت في كتب يقرأها الجميع إلى الله، ولكن دون امتزاجٍ وفهمٍ ويقين، وكانت علاقتهم بالله بعيدة عن النصوص والقيود، إنه امتزاجٌ بسيط، شرطه الوحيد أن يكون نابعاً من القلب، وخالصاً إلى الرب...
كانت طُرقهم غريبة تناقض تماماً ما جاءت به تلك الأديان، من تحريم الغناء، والكلمات الغزلية والعشقية الجميلة، إلا أن المفارقة أنهم جعلوا من الموسيقى والغناء سبيلاً ووسيلة توصلهم إلى الله، وجعلوا من كلمات العشق والحب، عبارات لمخاطبة الرب، الذي امتزجوا وانصهروا بروحه عُشاقاً أبديين...
لم تكُن الموسيقى الهدف، بل كانت وسيلة للامتزاج بروحية الخالق وملكوته، كانت الطريق الذي جعلهم يستقطبون الآخرين ليعيشوا حالة غرائبية مع الله، لتشتهر بعدها هذه الموسيقى، وتصبح نوعاً خاصاً يحتاج إلى حرفية عالية ...
الموسيقى الصوفية وبحسب تعريف متداول لها، هي تلك الموسيقى التي ابتكرها الصوفيون الأوائل الذين لاحظوا انهم وصلوا مرحلة مهمة من العبادة لله وابتكروها لأغراض روحية يمتدحون من خلالها الرب، ويمتزجون به حباً...
نشأة الموسيقى الصوفية لم تكُن عربية، فحسب ما ذكرت الباحثة الاكاديمية الموسيقية اسراء المرسومي "أن الموسيقى الصوفية ليست عربية، ويقال إن نشأتها الأولى كانت في افغانستان، كما ذكر البعض أن نشأتها كانت في المغرب وباكستان وتركيا، لكل مجموعة من المتصوفين دلائل تؤكد أن نشأة هذه الموسيقى تعود لهم، لكن بكل حال يمكننا تأكيد أن نشأة هذه الموسيقى لاتخرج عن هذه المناشئ الأربعة التي تم ذكرها".
مدارس الموسيقى الصوفية عديدة منها المولوية، والبكداشية، والعلوية، وغيرها، إلا أن المرسومي تذكر أن "اشهر انواع الموسيقى الصوفية هي المدرسة المولوية والتي كان مؤسسها وعرابها مولانا جلال الدين الرومي، وهو افغاني الأصل، وهي طريقة الصوفية الأشهر".
انتشرت الموسيقى الصوفية في الوطن العربي بفعل الاحتلال العثماني لمناطق ومدن من الوطن العربي، وبخاصة في بلدان الشرق العربي، والتي ذكرت المرسومي منها "مصر والعراق وبلاد الشام، وغيرها من مناطق الشرق العربي، وعرفت بطريقة الدراويش".
للموسيقى الصوفية الفضل الأكبر على الموسيقى والغناء اليوم، ذلك أن موسيقى اليوم استمدت من تلك الموسيقى، اضافة الى أن رواد الطرب والموسيقى في العالم العربي والعراق، كانوا ذوي نهج متصوف من حيث موسيقاهم ومن خلال الموشحات والتواشيح والاناشيد التي قدموها، كونهم درسوا هذه الموسيقى في المشايخ، حيث تؤكد المرسومي "معظم الملحنين الاوائل من رواد الموسيقى العربية هم خريجو مشايخ، وكانوا يلحنون الموشح والتوشيح والنشيد، وهذا كان أساس الموسيقى العربية في نهاية القرن التاسع عشر، وهؤلاء كانوا رواد الموسيقى العربية وهم من المشايخ مثل سيد درويش والشيخ ابو العلا محمد، والشيخ زكريا احمد والشيخ سلامة حجازي، وعدّوا رواد الموسيقى العربية في الوقت الحالي، وقد تربّوا على هذا الأمر، وكان أساتذتهم من الأتراك بفعل عامل الاحتلال، إضافة الى أن السلاطين الاتراك لم يكونوا متقبلين لأيّ موسيقى، إلا تلك التي تمتزج بروح الله".
أما في العراق فتذكر المرسومي "أن رائد الموسيقى العراقية وشيخ المشايخ فيها كان الملّا عثمان الموصلي، والذي يعود الفضل اليه اليوم في أن معظم الموشحات والتواشيح والأناشيد التي تقدم حالياً ومعظم الاغنيات التي تقدم اليوم، مأخوذة عمّا أسس له وألفه الموصلي". مؤكدة أن "فيما بعد حصلت محاولات خجولة لتلحين المقطوعات الصوفية، إلا أن ما يؤسف له، هو في كل محاولة لتطور الموسيقى الصوفية، سنجد أنها تتراجع وتضعف من حيث إمكاناتها التقنية والفنية".
الموسيقى الصوفية تعدّ من اصعب انواع الموسيقى، لأنها تحتاج الى موسيقي "محترف المحترف" كما وصفته المرسومي، ذلك أن هنالك من يناشد الله من خلال موسيقى سيحتاج الى عزف مقطع يصل به وبقوة الى قلوب المستمعين، ليؤثر فيهم، ويخبرهم أن هذا المقطع يُعزف للامتزاج بروح الله".
للتصوف بعدٌ آخر غير البعد الديني، فهو كل ما يتعلق بمستوى الجمال المتعالي والراقي، حيث أن هنالك الكثير من الفنون كالشعر والتشكيل والأدب السردي، وفنون وثقافات أخرى تُعنى بهذا المجال بصيغة وصفة جمالية خاصة، ولا يختلف المفهوم الجمالي عن المفهوم الديني، فكلاها يبحث عن السموّ والرُقي في مخاطبة الجمال بصيغة عشقية يكون فيها المعشوق متفرداً بذات الله...
أما عن الآلات التي تستخدم في الموسيقى الصوفية فأساسها "الدف" او ما يُسمى الرقّ، وقد تم توظيف هذه الآلة بشكل مختلف من عصر الى آخر، فكما يقول عازف الرق في فرقة حلم المختصة في مجال الموسيقى الصوفية "إن على عازف الرقّ أن يطور الموسيقى الصوفية من خلال توظيف الرق واستخدامه من عصر إلى آخر، وباختلاف مراحل التطور الزمني الموسيقي، فبإمكان هذه الآلة ايصال موسيقى معاصرة تصل بسهولة الى المتلقي وتحاكي العمق التاريخي للمجال الصوفي بذات الوقت ولكن وفق اسلوب متعالٍ".
الموسيقى لم تكُن طريقة للوصول الى الله، فمحمد الذي تربّى على يد المشايخ المتصوفة في العراق، والذين يعرفون "بأهل الطريقة" وعايش الكثير من الجلسات الصوفية التي تتضمن العزف والغناء فيما يعرف بـ "بيوت الذكر" يؤكد أن "الموسيقى المتصوفة هي وسيلة للوصول إلى الناس وجذبهم لبيوت الذكر، وتقريب فكرة الخالق والرب لديهم، ليكون هنالك قبول اكبر من قبل الناس الى الله". مُشيراً إلى "ما يُذكر حول وجود تحريمات دينية للموسيقى، فهذا غير صائب لأننا لم نشهد أي نص صريح يحرّم هذا الأمر". مدين محمد عازف ايقاع لموسيقى صوفية أسست لها فرقة حلم، أكد دائماً من خلال حديثه، أن هؤلاء الشباب في الفرقة يواجهون الكثير من المشكلات ويتعرضون أيضاً لحالات تهديد، أو ترهيب، الغاية منها أن يكفّوا عمّا يقومون به "أي توظيف الموسيقى كوسيلة للامتزاج بالرب". ويبدو أن ما واجهه جلال الدين الرومي قبل مئات السنين، يواجهه العديد من اصحاب الفكر الصوفي اليوم، فالاراء المتطرفة لا يمكن أن تستوعب، أن من شأن الموسيقى خلق روح الامتزاج بالله، والتعبير عن الايمان من خلال مقطوعة موسيقية متسامية بالرقي".
وهنا يؤكد محمد "أننا نواجه العديد من التهديدات، وأحياناً نواجه مقاطعات من قبل اشخاص من بيئتنا وحتى عوائلنا، لأنهم لا يستوعبون هذا النوع من الإيمان بالله، فما يعني لهم أن نستخدم الموسيقى كوسيلة تقرب لروح الله".
فرقة حلم الباحثة عن التصوف من خلال موسيقاهم، ماهم إلا شباب مؤمنين بما يقدمونه، فهم يعون أن فكرة الله لاتحمل الثواب والعقاب، بل هي حالة فنتازية يصل اليها الانسان المؤمن قلباً وفعلاً، ليذكر لنا عازف ايقاع والمطرب ناصر اياد، وهو أيضاً احد اعضاء فرقة حلم أن "ما جذبني لهذا النوع من الموسيقى هو السحر الذي يقودنا الى روح الله، هذا يجعلنا في عالم آخر، كذلك من خلال القراءة المستمرة والتعرف الى هذا النوع من النهج، سيخلق منك انساناً شديد التسامح وبعيداً جداً عن ضوضاء العنف، بسبب الاختلاف بالاراء الذي يحيطنا في كل مكان".
فرقة حلم التي انطلقت كفرقة عازفة ومستعيدة لموسيقى السبعينيات، لم تؤمن بما قدمته سابقاً، واختارت نهجاً من الموسيقى التي لم يعرفها العراق بشكل موسع، مؤسس الفرقة فهد عبد الرحمن يؤكد "أن بالرغم مما تعانيه الموسيقى الصوفية في العراق من تجاهل وتغييب، إلا اننا نحاول استقطاب العديد من المتابعين والمستمعين لحضور حفلاتنا، التي توقفت مؤخراً بسبب الأحداث المتهالكة التي يمر بها العراق".
التصورات والتساؤلات كثيرة حول مفهوم الرب لدى الكثير من الناس، فماذا إن استبدلنا كلمة "الله" المقترنة بالجنة والنار والثواب والعقاب، بكلمة "الله" المقترنة بالسلام والعشق والامتزاج الروحي الذي يولده الأدب والفنون والموسيقى، ألن نكون حينها قادرين على الوصول الى الرب يا ترى؟.