في لحظةٍ توحي بتلازمها مع ما انتهت إليه " شدّة وَردِه" التي لم تفارقه، حتى وهو يتعالى على ما أُصيب به من وجع الضيم الذي حلّ به بعد أن صار يقاوم "عُقدة لسانه"، وقد تحجّرت معها مسالك تدفّق حوامل القيم والأفكار وتجليات الدفء الإنساني .لكنّ بريق عينيه، و
في لحظةٍ توحي بتلازمها مع ما انتهت إليه " شدّة وَردِه" التي لم تفارقه، حتى وهو يتعالى على ما أُصيب به من وجع الضيم الذي حلّ به بعد أن صار يقاوم "عُقدة لسانه"، وقد تحجّرت معها مسالك تدفّق حوامل القيم والأفكار وتجليات الدفء الإنساني .
لكنّ بريق عينيه، وابتسامته، وتلويحاته الموحية، تجاوزت عقدة لسانه طوال المِحنة التي ألمّت به، فصارت هي بحدّ ذاتها لغته البليغة التي لم تُخفِ معانيها عن أحبّته وأصدقائه ومريديه .
وحين كانت ملامحه تتغَيّم، ويتبدّى الحزن فيها، كانت تلك إشارة التقاطه لصورٍ مكدّرة لما آل إليه الصرح الذي ساهم ببناء أسسه الواعدة بالدولة الوطنية الديمقراطية، دولة المواطنة والحريات والقانون، مع رفاقه ومَنْ " توهّمَ " أنهم شركاء، "شراكتهم لا تقبل القسمة على الخرائب"، وستبقى ذاكرتهم مشغولة بالانشداد لزهو الأيام الخوالي والوفاء لها، وأنهم لن يرتدّوا على ما تعاهدوا عليه من تكافلٍ في بناء وطنٍ لا تُصدِّعهُ " مهارات" مُغامرٍ مهووسٍ بالسلطة، أو ناكرٍ لتاريخٍ تعَمَّدَ بالدم الزكي، أو مستقوٍ بماضٍ لم يخلّف سوى الخراب والدمار، وموروثٍ من حُطام كلّ المستبدّين على مرّ التاريخ وتقلباته .
رحلَ مام جلال، وكأنه كان يَمنُّ علينا برفقة محفوفة بتحدٍّ يطول ما تناثر من أوراق " شدّة وردهِ " التي جفّت وعصفت بها رياح الخديعة وأطماع اغتيال الحلم، ولما تعرّضت له من جفاءٍ وإنكارٍ واستهدافٍ غادر تحيط به الشبهات من كلّ صوب. لعلّه أراد أن يُغلق عينيه قبل أن تأتي " صولة فرسانٍ " متعامية، على ماتبقّى في بريق عينيه من وهج الأمل وجذوته المستعصية على الانطفاء .
كان عراقياً شديد الاعتزاز بقوميته الكردية، لا يتردّد عن القول "إننا سنبقى في وطنٍ واحد، مادام شركاؤنا يحرصون على أن يكون العراق للجميع. وسيكون للجميع، إذا لم ننكفئ على ما تعاهدنا عليه في أن يكون العراق الجديد ديمقراطيّاً، تحكمه قيم العدالة والمساواة، وتترسخ فيها المواطنة باعتبارها قاعدة الحكم ومصدره، وأن تنأى عن النزوع نحو تغليب الطائفية والمذهبية عليه، وأن تقاوم الاستقواء بالسلطة لمصادرة الغير، وأن تدرأ مغامرة الطامعين بالسلطة المجبولين على شهوتها وفسادها ."
ظلّ مام جلال يُغالي بانفتاحه على الشيعة حتى أنه كان يُردّد حين يُسأل أنه " شُنّي"! وكلّما يلتقي القادة العرب والأجانب يسرد عليهم سيرة الإمام الحسين وآل البيت، ويفنِّد المزاعم التي تمسّ الانتماء الوطني لشيعة العراق وما يقال عن "فارسيّتهم" وانحيازهم للمصالح الإيرانية على حساب المصالح العراقية، ويُعيد إلى الذاكرة أنّ أئمّة الشيعة كلهم مدفونون في العراق باستثناء الإمام الرضا، وهم كلما يزورون مرقده يردّدون: " يا غريب الدار"..!
لم يكن يريد الخروج عن وحدة الصف الكردي - الشيعي حين تبنّى في لحظة يوشك العراق فيها على الانهيار، فلم يجد وسيلة لوقف الانحدار سوى بإجراء تغييرٍ لمن وجد فيه السبب، ومن لم يستجب لكلّ ما بُذل معه للتراجع عن نهجٍ وسياسةٍ تُنذر بخطر وخيم، وحين تراجع تحت ضغطٍ واعدٍ بالتغيير، استُقبِل بغدرٍ مضاعفٍ ممّن لم يكن له أن يحلم بما تبوّأ حتى في حلم ليلة صيف .
كانت صدمة الغدر عميقة، تُنبئ بغدرٍ على مساحة الوطن، على امتداد عراقِ بدّدَ الحلم فيه الأفّاقون، الفاسدون، المقطوعون، خلافاً لما يظهرون عليه من شجرة الأئمة وقيمهم وتضحياتهم وأياديهم البيضاء غير الملوّثة بفساد السلطة وجرائمها وارتكاباتها ..
رحل الرئيس العراقي جلال طالباني الذي انضمّ إلى المقاومة الفلسطينية، مقاتلاً إلى جانب مناضليها، مردّداً أنّ "انتمائي القومي يُؤكد عمق انشدادي إليه، حين أحمل همَّ الشعب الفلسطيني والعربي وأذود عن حقوقهما، ولن تكتمل هويتي دون تجلّي القيم الإنسانية فيها".
لم تُفارق "المام" الثقة بأنّ الشعب الكردي، إذ ما أراد يوماً تقرير مصيره فإنه سيجد إلى جواره عضيداً من الشيعة قبل غيرهم ..
نَمْ مام جلال قرير العين، فلك فضلٌ فيما أفاق قومك وجعلهم يتنبّهون إلى ما يُحيق بهم من مخاطر وتحدياتٍ، وهم يريدون مجرد البحث عن ذاتهم المأسورة، قبل أن يستغرقهم الحُلُم، دون أن تكون لهم يدٌ في ما يجعل العراق وليمة أغراب يحومون في سمائنا المدمّى بفتن انتقامهم التاريخي ، وجدران كراهيتهم لشعوبهم وتخندقات عزلتهم ..
نمْ، نمْ ، مام جلال ، فكان حريّاً بك أن تغادر الدار الفانية، دون أن ترى عيناك الملتاعتان العجبَ من عدم وفاء من كانوا أقرب اليك، حتى لمجرد أن تُشهرَ كرديّتك ..!
نمْ، مام جلال، نمْ، دون أن ترى بأمّ عينيك ، كيف كنتَ ترفع راية الحسين الشهيد، وكيف يتدافع حلفاؤك الأقربون على ولائم نهش أبناء قومك ، يتنافسون في التحريض على شتمهم من على منابر الحسين ..!
نمْ، نمْ، متلفعاً بعباءة شعبك، مرفوعاً على هاماتهم، وفوق وجنتيك دمعة وداعٍ، هي إلى الدعاء أقرب ..فنعم نوم المرء في الكرب الجسام، فالجبل الأشمّ سيطوي غداً جثمانك شامخاً غير هيّابٍ ..!
نمْ، فانتَ تغدر بي مثل غيرك، وأنت تختار لحظة غيابٍ في غير أوانه، في وقتٍ لم يعد أن جفًت الدموع في المآقي لكثرة ما حاقنا من بؤسٍ وخرابٍ وفساٍد ولحق بشعبنا من حيفٍ وكراهيةٍ...
نمْ، فقد فعلتها هذه المرة، ولستَ في حالٍ أدعوك فيه لكي تنهض ..
جميع التعليقات 1
الصحفي كاظم جابر الموسوي
لقد ابكيتني يااستاذ فخري مقال رائع حقا ماتقوله الحسين عليه السلام لايمثل هكذا نكرات ولايمثللون الشيعة ايضا انهم حفنة من اللصوص شاءت مهازل الاقدار ان يعبد لهم اسيادهم سرقة العراق في تاريخه وجغرافيته واهله .. تحياتي