عندي أصدقاء في أحزاب الاسلام السياسي، الشيعية تحديداً، أحبهم جداً، أناس طيبون، من مختلف مناطق البصرة، مختلفون كثيرا عن زملائهم في مدن الجنوب والفرات الاوسط، بسطاء ومؤمنون حقاً، ولديهم قناعة وزهد هو مما يورثه الماء والتمر والرغد في النفوس الطيبة، يكتفون من معارك المال والوجاهات والسلاح والعقود التي تدور في بغداد والمحافظات بالجلوس قرب الانهار وزيارة العتبات والصلاة على محمد وآل محمد. الجيل الأول منهم ترك السياسة وارتدى دشداشته البيضاء وراح يقاطر خرزات مسبحته ناشداً المرضاة والأمل بدخول الجنة، مكتفياً من مال السحت والحرام براتب تقاعدي بسيط وربما بمنزل من الدرجة الثالثة. كثير من هؤلاء وجدوا في السياسة مرتبة أدنى من انسانيتهم، فيما ظل البعض منهم على هامشها، يحاول ترميم ما تصدع بالحكمة والموعظة الحسنة، في بلاد كل ما فيها متهور ولا يتعض فيها أحد.
في مقابل ذلك عندي أصدقاء أعضاء في الاحزاب هذه، أحبّهم أيضاً وأحترم تاريخهم السياسي، البعض منهم يتصدر المشهد السياسي العراقي اليوم، وهو فاعل مؤثر فيه، لكنه لم يغادر بعد منطقة الاوجاع والآلام، التي وقع فيها أيام النظام السابق، وتشكل المنطقة هذه في وعي البعض الآخر هاجساً مرضياً وكابوساً أزلياً، فهو مازال يرى في المروحة آثار الحبل الذي علقوه به، وكل مبنى أبيض في نظره هو دائرة للأمن، كل كلمة تقال ضد حزبه مؤامرة بعثية، فيما يعتقد البعض الآخر بينهم، ممن يتصدرون المسؤولية في الدولة الآن، بأن الغد غير مضمون النتائج بوجود بعثي واحد في العراق، حتى ممن يشاركه العملية السياسية، ومن يصبّحه ويمسّيه ويصافحه ويجلس أمامه في البرلمان ويحدثه بشأن مستقبل العراق، فهو أيضاً غير مطمئن لوجوده معه، مشكك في تحوله وجديد ولائه.هذا الشعور يحمل كمية كبيرة من الصدق لمن عاش حياة توزعت بين الملاحقة والسجن والحكم بالإعدام. ضمن المعادلة هذه لا يمكننا تصور شكل رجل الدولة الحالية. وأخصُّ، الذي يتصدى للمسؤولية في التشريع أو التنفيذ.
ولأنَّ بناء الدولة الحالية جاء في كثير من مفاصله نتاج المعادلة المستحيلة هذه، مجموعة مضطهدة، يتقدمها شعور بالظلم والخسران، كابدته عقوداً طويلة، تسلمت السلطة وسط شعورها الأزلي باحتمال فقدانها، تريد الموازنة بين ما تحقق وما تحتمل فقدانه في أيّ لحظة، بين أمس من السياط وغد من الرغد، بين ممارسة العبادة والطقوس بحرية كاملة وبين احتمال تقنينها أو الحرمان منها، بين وجوب امتلاكه القانون والمال والسلاح وبين وجوب حرمان الآخر، المتخفي تحت مسمى الشراكة والمصالحة منه. يزيد من ذلك وجوده في هيئة (الخصم) المتربص، صاحب الخبرة الطويلة في الادارة، غير مأمون الجانب. بمثل الهواجس والمخاوف هذه لا يمكن لرجل ما، أي رجل أن يبني بلاداً. بناء البلدان يأتي من التخلص من العقد والمخاوف، من الشعور النهائي بالطمأنينة، ومن سلامة موقف الآخر (الشريك) هذا الذي يستحيل إخراجه من عملية البناء هذه.
نتيجة طبيعية لذلك نجد تغليباً للهوية الفئوية، الضيقة على الهوية الوطنية الكبيرة، فقد تقلصت مساحة اهتمام هؤلاء بالوطن لأنه (الوطن) لم يكن كاملاً لهم بوجود الخصم القديم . وهكذا، ظل الآخر (الشريك) موضع ريبة عندهم، والريبة هنا كثيرا ما ترقى الى درجة اليقين، مع الأسف، الأمر الذي أربك المشهد وانتج لنا أنموذجاً حكومياً تأرجح بين نقطتي الولاء وعدمه.
بين الولاء وعدمه
[post-views]
نشر في: 7 أكتوبر, 2017: 09:01 م