على الرغم من سعة حركة النشر والطباعة في شرقنا المتوسط هذا إلا أن الكاتب والشاعر العربي والعراقي بشكل خاص يجد صعوبة بالغة في تسويق ما يكتب ويصدر من كتب، والتسويق بمعنى القراءة والتلقي لا بمعنى المبيع، وهو يتحسس عن قرب حجم الفجوة بينه كمنتج للنص والآخر، المتلقي، القارئ، الذي تراجعت رغبته في القراءة أكثر مما يجب، حتى بات الكتاب خارج اهتمامه، وما النسب المتدنية التي توردها بعض المراكز البحثية عن حجم ما يقرأه العربي أزاء ما يقرأه الاوربي أو الاميركي والياباني إلا الدالة والبيان على المأزق الذي وجد المثقف العراقي نفسه فيه، إذ السؤال هنا يقول: ما معنى أن تكتب وما الجدوى من إصدار كتاب ما ؟
يمكننا الرجوع الى تاريخ تراجع اهتمام القارئ العراقي بالكتاب الى السنوات الأولى من الحرب العراقية الايرانية، حين زجَّ النظام السابق الشعب كله فيها، فقد سجلت السنوات تلك الانعطافة الخطيرة في فهم وظيفة الحرب وجدوى خوضها، وما إذا كانت حرباً شريفة أم لا؟ ومعلوم أنَّ الشعب بصورة عامة كان قد انقسم فريقين-دونما تصريح بذلك- واحد مع الحرب بوصفها شرفاً ووجوب مشاركة. وفريق ضدها، آيتهم في ذلك أنها عدوان على جارة مسلمة، ولسنا هنا في مورد تقسّيم الفريقين على أساس طائفي. فلسنا مع هذا وذاك فالحرب هي الحرب بأي صورة جاءت .وهكذا، اهتزت قيم الثقافة في الذائقة الجمعية العراقية، وتشوهت فكرة أن يكتب شاعر ما قصيدة أو يكتب روائي رواية، حيث صار لزاما على المثقف(منتج الكتابة الابداعية) شاعرا وساردا وفنانا، أيضاً إتخاذ موقف مناصرٍ للحرب، والموقف هذا حدد أهمية الكتابة باشتراط تناولها للحدث قبولا ومديحا، لا باشتراط اهميتها كمنتج جمالي وانساني، ومن يتخذ موقفا مناهضاً سيكون في محل شُبهةٍ من السلطة، في أقل تقدير. في اللحظة تلك بات المثقف والثقافة بعامة موضع شك عند القارئ.
ولو احصينا مجموع ما كُتب من نصوص ضد الحرب أو في الحياد منها لوجدناه لا يشكل رقما ازاء ما كتب في مديحها وتسويقها، لكننا، لن نعثر على أهمية فنية وإبداعية تذكر، في مجمل ما كتب -اللهم إلا في استثناءات قليلة- وهنا فشل المثقف، الكاتب، الشاعر، الفنان في تجسير العلاقة بينه وبين القارئ، الذي أصبحت آلافُ الكتب عنده لا تساوي ضمير جندي أُخِذَ للحرب بغير رغبته، وتُرِكَ جسدُه في أرض المعركة. ضمن المعادلة الصعبة هذه لا يمكن تصور الخسارة التي منيت بها الثقافة والمثقف أيضاً، إذ أيّ معنى لكتاب لا يمنحك الحقيقة، وما الجدوى من قراءة قصيدة تمجّد جندي ميت، لم تتبلور في قلبه بعد معانى الوطن والحرية والمستقبل، أو لا تملك زوجته الحليب الكافي لطفلها الذي تركته وحيداً في سريره، وذهبت تبحث في سجلات مركز تسليم الشهداء عن بقايا جثته، ما قيمة النجمات في كتف الضابط الذي ستظل صورته معلقة على الحائط، أبد الدهور، ذلك لأن صاحبها مات في الحرب هذه؟ في الوطن الذي سيوصف في المحافل الدولية معتدياً.
ضياع كاتب ونهاية كتاب
[post-views]
نشر في: 7 أكتوبر, 2017: 09:01 م