الفكر البشري الباحث عن كُل ما هو بسيط ومُقتضب، يتناقل ويتشتت بين ميله إلى الرواية، وابتعاده عن الشعر، وإن حاولنا تخصيص نوعية هذا الفكر، فسنُحدد بالقارئ العراقي على وجه الخصوص، الذي رغم ميله إلى كل ما هو قصير، ومُكثف، ومقتضب، إلا أنه الرواية استطاعت أ
الفكر البشري الباحث عن كُل ما هو بسيط ومُقتضب، يتناقل ويتشتت بين ميله إلى الرواية، وابتعاده عن الشعر، وإن حاولنا تخصيص نوعية هذا الفكر، فسنُحدد بالقارئ العراقي على وجه الخصوص، الذي رغم ميله إلى كل ما هو قصير، ومُكثف، ومقتضب، إلا أنه الرواية استطاعت أن تستميله دون الشعر، وقد يستوقفنا هذا لنتساءل، هل لأن الكلمة البسيطة والمُباشرة، والصفحات التي تناقش واقع المدينة والمجتمع، وتلمس هموم الناس تكمُن بالرواية؟
فيحاول الفرد المُطلع الابتعاد عن الاستعارات اللفظية والكلمات الفلسفية، والتي تحتاج إلى جهد استيعابي اكبر للوصول الى المتلقي، هو ما أدى لميل القارئ العراقي الى الرواية وهجرانه الشعر؟ خصوصاً بعد أن اصبح توجه الشعر اليوم مصبوباً بما يعرف بقصيدة النثر، التي تمتلك صور صعبة جداً قد يستطيع النخبوي فكّ شفراتها، إلا أنها لا تُطرب روح المتلقي البسيط إذا ما استمع لها أو قرأها!!
"سطوة الشعر تتراجع، والرواية تسود وتتربع على عرش الأدب" هذا ما يؤكده الشارع الثقافي العراقي، من خلال اقتناء المطالعين للكتب، ومن خلال آراء الأفراد الباحثين عن الثقافة، ليتركوا لنا تساؤلاً مُعلقاً، رغم أن هنالك الكثير من الأسباب التي من الممكن أن تكون هي الرد المناسب على ذلك السؤال، والتي ذكرنا بعضها في مقدمتنا، إلا أن المختصين في مجال الشعر والرواية والنُقاد من شأنهم أن يذكروا لنا أسباب أخرى، قد تُبطل صحة المقولة تلك، والتساؤل هو لما سادت الرواية؟ وهل حقاً استطاعت أن تُطيح بالشعر وتستعمر عرشه الأدبي، خصوصاً في العراق الذي يُعدّ بلد الشعر الاول والأهم، والرائد في هذا المجال الأدبي؟
الرواية هي جدل، إنها لاتحتمل الصوت الواحد مثل المقالة أو القصيدة، كما يمكنها أن تنقل وجهات نظر مختلفة على عدد الجهات الأربع، من هذه المُسببات تنطلق الروائية ميسلون هادي، لتُبرر سبب سيادة الرواية وتؤكد قائلة "بهذا أصبحت الرواية هي الأقدر احترافياً على نقل تجارب هذا العالم الجديد المرتبط ببعضه البعض، والحافل بالصراعات، والعاج بالمشاكل والاضطرابات والتغيرات المتلاحقة".
الرواية ذلك الكائن المكاني والزماني، بينما الشعر كائن زماني على الأغلب، وقد لا يهتم كثيراً بالشخوص أو الأمكنة بقدر اهتمامه بارتباك الفرد إزاء عبوره السريع للزمن الذي يعيش فيه، حيث تُشير هادي إلى أن "الشاعر يستقبل ذبذبات بعيدة من الكون، وتستوقفه حيرته الدائمة إزاء معناها الوجودي، وأزماته الفردية تجاهها، والغموض أيضاً مرتبط بالشعر أكثر من النثر". مشيرة إلى أن "رغم أن قراءتي للواقع تبدو قريبة من الحلم، إلا أني عندما أكتب الرواية يجب أن أنظر إلى الواقع جيداً، حتى وإن كان ذلك من نافذة الحلم، وأعتقد أن العمل الروائي يشكل سيرة للكاتب والمكان والزمان، فهو ليس كالشعر الذي فيه الزمان مطلق، وهو ليس كالقصة القصيرة التي لا تتحدد به بشكل صريح، ولكنه الأكثر عناية بكل عناصر الحياة من الشخوص إلى الأمكنة إلى الزمان، ومن خلاله نعرف صورة عصر بأكمله".
لو كان الشعر نشاطاً عابراً في التجربة الإنسانية ومرتبطاً بظرفية معينة، لصار من السهل وصفه بالتراجع والانحسار، ولكن المقولة التي شاعت بهذا الخصوص وهي تحاول أن تؤكد تراجع الشعر امام الرواية، تنطوي على بعد دعائي يتعلق ببيانات مبيعات دور النشر أكثر مما هو صادر عن القراء من انطباع، بهذا الرفض للمقولة الشائعة يحاول شعراؤنا الإجابة، فيقول الشاعر علاوي كاظم كشيّش، التأكيد أن " الشعر جوهر انساني مرتبط بالشعور في أبسط تعريفاته وعندما يتعطل الشعور عند الانسان يتراجع الشعر معه، مع أن المقصود في كل هذا هو تداول الدواوين أو المجموعات الشعرية التي عزفت دور النشر عن طباعتها لقلة رواجها واتجهت الى طباعة الرواية وسواها".
ويبدو أن كشيّش، يرى أن تراجع الاحساس الانساني، هو من أدى الى قلة الاهتمام بالشعر في العراق، كذلك هو يلقي اللوم على دور النشر التي عجزت عن التسويق لهذا المجال الادبي المهم، ويذكر "اذن نحن امام معضلة تسويقية في ظاهرها جاءت بسبب انصراف القرّاء على حدّ زعم دور النشر والاعلام الأدبي الى الرواية التي روّجت لها دور النشر على حساب الشعر، مع أن النشاط الانساني تكاملي وليس تفاضلياً، فضلاً عن ذلك فإنه نسبي، فقد تمر فترة معينة من الزمن يشيع فيها تداول جنس أدبي على آخر بحسب ظروف المجتمعات الانسانية والسياسية والثقافية، أو شيوع فن من الفنون على حساب فن آخر، وتاريخ الفنون والآداب حافل بذلك".
طالما إن الانسان لا يتوقف عن الشعور والبوح والحُلم، فإن الشعر سيستمر، وطالما أن الانسان لن يتوقف عن الحكي والقص فإن الرواية ستستمر، أن المجتمع الذي يروم المدنية، مجتمع يميل الى الرواية وهذا ما يجده كشيّش طريفاً حسب قوله، فيذكر إن "من الطريف أن الرواية تشيع في المجتمعات المدنية التي يتاح فيها للإنسان هامش كبير لإثراء وجوده الثقافي والتعبيري، بينما يميل الى تخصيص وقت أقل لتعاطي الشعر وتداوله ومتابعة اصداراته بحكم أن المجتمع المدني لا يميل الى العمق الروحي والشعوري في التجربة الانسانية".
ويبدو أن اختلاف فكر المُتلقي ونوعيته يعود سبب آخر يُرجح اشاعة تلك المقولة، فيذكر كشيّش أن "القارئ أو المتلقي القديم كان يهتم بكل انواع الفنون والآداب، أما اليوم فبدأت الترجمات الجاهزة هي التي جعلته لا يملك القرار إلا لخيارات ادبية محدودة".
القول بتراجع الشعر ومكانته وانتشاره وشعبيته، أو سطوته، يتكرر بين حين وآخر، وما هو بغريب، لكن مثل هذا القول يرد، وبين حين وآخر أيضاً، لا عن الشعر فحسب، بل عن غيره. فقد قيل مثله عن الرواية والقصة القصيرة وغيرهما، بل كثيراً ما ذهب بعضهم إلى القول بالموت: موت الشعر والرواية والكلمة والنقد، يبدو أن للنقد كلمته في ذلك، ورؤياه الثاقبة التي تُقدم لنا اجابة شافية لأنها نابعة عن "خارج الحلقة أو الدائرة" فيقول الناقد والاكاديمي د. نجم عبد الله كاظم عن ذلك أن أكثر من قال في هذا القول "اي تراجع الشعر وسيادة الرواية" عربياً هو الناقد العربي عبد الله الغذامي، وقد تناولتُ شخصياً هذا الأمر ورصدت مجموعة كبيرة من مقولات الموت عنده، تبقى المفارقة أن أيّ ميتة من هذه الميتات لم تتحقق، بل أكثر من ذلك أنّ بعضاً ما قال الغذامي وغيره بموته صعد ليحتل صدارة الكتابة والإبداع، كما هو حال الرواية مثلاً، فبعد أن توقّع من توقّع بموت الرواية، صار العصر عصر الرواية".
واشار كاظم الى أن "مثل هذه الاقاويل انطبقت على الشعر أيضاً. فقد سبق وأن صار الشعر فعلاً، وليس قولاً فحسب، في وضع ضعيف جداً في بريطانيا السبعينيات والثمانينيات، بحيث صار توزيع الديوان الواحد منه مثلاً بعدد أصابع الكفين أو أقل منها، الأمر الذي دعا المؤسسات الثقافية، بل معها الدولة، حينها تنظم حملات أدخلته غرف العناية المركزة ليعود شيء من الحياة له".
"هل أدّعي أنّ القول بأزمة الشعر أو انحسار سطوته لصالح الرواية هو من العبث واللغو؟" سؤال جدلي اطلقه كاظم ليُجيب عليه بـ "لا" محاولاً أن يُلفت الى أن السبب في ذلك يعود الى "قلق محبي الشعر، شعراءَ ونقادَ شعر وقرّاءً".
بجانب آخر لا يعدّ كاظم أن هذه الحالة مطلقة فقد مرت العديد من الاجناس الادبية مسبقاً بفترة سبات إلا أنها عادت من جديد فيذكر قائلاً "آمل أن لا يذهب محبو الشعر بعيداً في هذا، وأن يعوا بأن مثل هذا الذي يحدث للشعر، إن كان صحيحاً، قد يحدث، بل حدث لأجناس أدبية أخرى، وهو يمثل حالة لا تدوم غالباً، فما نراه مزدهراً وذا سطوة اليوم قد نجده منحسراً غداً، وقد تعود سطوته بعد غد، وهو ما ينطبق على جميع الأجناس الأدبية والفنية، وذلك وفقاً لمتغيرات الثقافة والظروف العامة والتأثير والتأثر ما بين الشعوب والمزاج العام".
الرواية باتت تمارس سحرها الخاص على العراقيين حتى أنّ كثيراً من الأدباء هجروا من اجلها صنوفاً أدبية أخرى من بينها الشعر!. نعم في الواقع هذا ما شهدناه في الآونة الاخيرة، هو ذهاب بعض الشعراء لممارسة تجارب في كتابة الرواية، وبدوره أكد ذلك الروائي نوزت شمدين، قائلاً إن "الأسباب كثيرة التي ادت لسيادة الرواية وتربعها على عرش الادب منها خزين التجارب الهائلة والمتغيرات المصيرية السريعة المتلاحقة في مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والأقتصادية وغيرها مع وضع أمني موتور باستمرار، وبالنتيجة صارت مساحة الروي أوسع من قدرة النص شعراً كان أم قصة قصيرة على سبيل المثال".
لم يخرج شمدين من اطار ملامسة الرواية لهم الفرد أو القارئ العراقي، عادّاً هذا السبب هو الاساس في ذلك مؤكداً "بعد اعتماد شبه كامل على النص الروائي الأجنبي المترجم واعتباره اكثر جودة وحرفية وحتى متعة قرائية صار يتقبل النص الروائي العراقي بنحو اكبر من ذي قبل، ولاسيما بعد أن اصبح يلامس قضاياه بنحو مباشر بعد طول مكوث في عالم الترميز والعصور الغابرة".
وقد يكون لرواج الرواية على حساب الشعر سبباً آخر يتمثل بـ "المسابقات والجوائز العديدة حتى أن العشرات باتوا يكتبون الرواية لمجرد دفعها في هكذا انشطة والغريب أن المتلقي بنحو عام بات يعتمد على هذه الجوائز والمسابقات لإعداد لائحته القرائية". هذا سبب آخر يذكره شمدين مُعللاً أسباب سطوة الرواية على المشهد الأدبي، فالرواية التي تظهر في قائمة الجائزة الفلانية أو تفوز بها يعني بالضرورة بالنسبة الى القارئ انها الرواية الفضلى، وصاحبها يحصد في جائزة واحدة شهرة ومجداً لم يكن لينال غيره أياً منهما حتى وإن أصدر عشر روايات متلاحقة.