(1 - 2)
أنت تتحدثُ عن "عُزلتي"، وكأنك تتحدثُ عن "الوحدة". وبين "العزلةِ" و"الوحدة" بحرٌ محيط. لقد تعرّفتُ على عزلتي وانتخبتُها منذ سنوات، قد تعود إلى أيام الشباب الأولى. ولكن "الوحدة" أحياناً تُربكها، إذْ تقتحمها وتحتلها على غير دراية، وإرادةٍ مني، فتسلب رحيقها، وتُحيي بدلها دوامةً لا تتوقف من زمانٍ مواتٍ، ومكان تراوح فيه الخُطا. "العزلة" خيار شخصي، قد يكون ذا طبيعة مراهقة، مفعمة بالحيوية الفيزيائية، أو طبيعة ناضجة مُثقلة بحكمة العقل. الحوار يشكل دورتها الدموية؛ حوارٌ مع النفس، حوارٌ مع آخر مُفترض، حوار مع كتاب، حوار مع الطبيعة. حوارٌ مصوّتٌ أحياناً، وداخلي معظم الأحيان. بستانٌ مثمرةٌ أبداً. في حال هذه "العزلة" أجد أكثر من حافز للكتابة، للقراءة، للرسم وللموسيقى. كذلك الحبّ فهو فيها يسيرٌ، كريمٌ، يُقبل عفوياً. وهو رائع في كل حالاته، حتى في حال التمنع واللا استجابة. لأنه سيبعثُ حينها أسىً عزيزاً على قلب الشاعر بي، ومُلهماً. هذه الحوافز جميعاً إنما يولدها اكتشاف الذات، الذي تولده العزلة بدورها. ولعلك ستعجب حين أقول لك إن هذه "العزلة" تُقرّبني من فهم الآخر، والتعاطف معه. في الوقت الذي تُنفّرني منه "الوحدة" حين تأخذ بخناقي. نعم، ستعجب من ذلك، لأن في العزلة رحابة اللقاءات المُنتخبة. بابك مُشرع لمن ينجذب لصمتك الظاهر، أو لأصداء حوارك الخفي. ثم إنها وسيطي، حين أخرج للتجوال أو للمقهى في هذه المدينة الكريمة، في تأمل الأجناس البشرية، تأمل الأعمار، والهيئات، والوجوه، والأصوات.
في قصيدة لي تعود إلى 1996، بعنوان "العزلة وقرينها"، أقرأ لك هذه الأبيات:
"أقترحُ العزلةَ تسكنُها،/ في منأىً عن أهوائكْ .....
مُحترساً من عينِ رقيبٍ/ لا يُحسن فهمَ أدائكْ.
أهواءُ المرء وليدةُ مجرىً لا يهدأْ،
والعزلةُ ماءُ غديرْ،
يتآخى في زُرقته الأحسنُ والأردأ،
والخيّرُ والشريرْ.
ثم تُختتم القصيدة بهذا المقطع:
"العزلةُ ماءُ غديرْ،
يتأملُ فيها النرجسُ فتنتَه وزوالَ شبابه.
والموتُ مناجاةٌ للجسد،ِ تهدْهدُه
وتُهوّنُ من أتعابهَ."
هل ترى؟ حتى الموت، فكرةً أو حقيقةً، يُقبل في هذه العزلة كـ "مناجاة للجسد..". إن رحابتها تتسع للحياة والموت معاً.
هل يحدث كل هذا مع "العزلة" لأنها خيارٌ داخليٌّ حرّ؛ أو لأن فيها ضمانةً لهذا الحوار البالغ العمق مع النفس، ومع الانسان المُفترض، ومع الكتاب بين اليدين، واللوحة على الجدار، واللحن الذي ينطلق من الآلة أو الحنجرة، أو مع الطبيعة حيث يمتدُّ بصرك؛ أو لأنها تحطم السورَ بينك وبين الآخر؟ أو أنها كلُّ هذا، وأكثر؟
ولعلك ستقول إن في العزلة صمتاً يفيض عن حاجة الكيان الحيّ. ولكن هذا ما يوهم به سطحُ البحر المحيط؛ قشرة بحكم انعكاس الضوء تلصفُ، وتحجب ما يعتمل تحتها. ما تحت السطح اللاصف كون لا تحيط به الحواس. صمت العزلة حواري ضاجٌّ، مع النفس ومع الآخر، لا يتوقف. لا تلقطه حاسة السمع، شأن موسيقى الكواكب التي يُدركها الفيثاغوريون.
في مرحلة متأخرة وردت هذه الأبيات في واحدة من قصائدي:
"إركبْ بحراً، خذْ قاطرةً، خذْ طائرةً، خذْ مركبةً لفضاءْ،
واخترْ للنفس بلاداً دون حدود خُطّت فوق الماءْ.
حلّقْ كالنسرِ على القممِ،/ وأقِمْ في رحِمِ الأرضِ جنيناً للبركانْ/ بين الحممِ،
ستعود بألف قناعْ / يخفي أثراً من وجهٍ ضاعْ..."
واضح أن هذا النص وليدُ حالة من "الوحدة"، لا "العزلة". ما من رحابة ورضى هنا، وما من أسىً كأسى المحب، بل لحظة إحباط باردة تمليها الأقنعة الألف، وهي تخفي الأثر الذي خلفه الوجه الضائع.