لطفية الدليميصيف 2008 زرت مع ابني - إقليم البروفانس في الجنوب الفرنسي غابات جوز وكروم عنب وقلاع قديمة اشتهرت بصناعة أجود أنواع النبيذ وأفضل منتجات اللافندر ،أقمنا في بيت ريفي مقابل قرية لاكوست التي تعلوها قلعة المركيز دوساد وحدثتني مدام بريجيت مالكة البيت الريفي التي تتقن الانكليزية ،
عن تاريخ اسرة المركيز دوساد والقرية التي بقيت منبوذة لعقود من الزمن بسبب فضائح ( دو ساد) حتى اشتراها المصمم الفرنسي الشهير بير كاردان وأعاد ترميم القلعة وأحيا القرية .. أمام القلعة الحجرية العتيقة هضبة صخرية تحيطها أشجار صنوبر وسنديان , يقام عليها كل صيف مهرجان مسرحي وتفد إليه جموع عشاق المسرح من فرنسا وجهات العالم، وتمسي قرية «لاكوست» مركزا ثقافيا يعج بالفرق المسرحية والأضواء، ويعرض القرويون في السوق الأسبوعي منتجاتهم الطبيعية، أصناف العسل وصابون العسل ومنتجات حقول اللافندر عطورا ووسائد زهور مجففة وزيوتا شافية ويعرضون أجبان الماعز مع اللحوم المقددة وانواع الزيتون ومصنوعات من الخشب والحجر ومطرزات ومخرمات..هكذا ترمم الثقافة ذاكرة الأمكنة، وتشفيها من ندوب الماضي التي تسببت بها انحرافات سيد من نبلاء المكان، فتتحول القلعة المشؤومة الى موئل للثقافة المعاصرة، وتقتح المكتبات والمقاهي الانيقة التي يملكها مصمم الأزياء الشهير بيير كاردان .. في منطقة لوبيرون الساحرة شرق مقاطعة البروفانس تقع قرية لاكوست، جبلية وعرة طرقاتها الحلزونية معلقة على منحدر هضبة بأشجار بلوط وصنوبر، ومن قمة الهضبة تتعالى بمهابة قروسطية قلعة لاكوست أو قصر المركيز دوساد كما تسمى الآن، نرتقي اليها بطريق حجري وعر ومنحدر جدا، وكانت القرية ومايحيطها من منحدرات وسهول ومزارع كروم ملكا لعائلة دوساد منذ القرن السابع عشر، تطل على مشهد فردوسي للوادي والقرى المستلقية في احضان الكروم، وأطراف الغابات البكر وجبل سنت فيكتوار المهيب وحقول زهور اللافندر التي تتفجر أشذاء تعطر -منذ منتصف حزيران -صيف إقليم البروفانس.. حظيت قرية لاكوست بشهرتها بعد محاكمة المركيز دوساد في القرن الثامن عشر ،ولبثت لصيقة بالشهرة المشينة مذ حوكم عن جريمة تسميم أربع غانيات وخادم في مرسيليا، وصودرت روايته «جوستين» من قبل نابليون وأحرقت نسخها، ثم تم حظرها في أوروبا وأميركا، ومنعت طبعاتها تباعا لما تتضمنه من عنف جنسي - سادي وآراء تتعلق بتبرير العنف البشري وامتزاج المتعة بالأذى والموت... ولفتت الرواية وسلوكيات المركيز الشاب الأنظار الى حياة دوساد الخاصة، التي قادته الى المحاكمة والسجن،و حكم عليه بسبعة وعشرين عاما، كتب خلالها روايته الشهيرة (120 يوما في سادوم)، التي قدمها المخرج بازوليني للسينما بفيلم يعد من أشد افلامه نقدا للفاشية والعنف وإدانة السلطة ووسائلها في إذلال الانسان وتدمير روحه.. عاش دوساد مع زوجته وابنائه الثلاثة في قصر لاكوست منذ 1771، لكن فضائحه التي هزت المجتمع الباريسي دعت والدة زوجته البورجوازية الباريسية لإقامة دعوى تفريق بينه وبين ابنتها وبقيت مؤلفاته محظورة في فرنسا حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين نشطت الحركة السوريالية وشعراؤها البارزون من أجل اعادة الاعتبار له ولنتاجه الأدبي، فأعيد طبع رواياته، وحظيت بشهرة واسعة ،واستلهم الروائي والشاعر البريطاني لورنس داريل شخصية جوستين - في أحد أجزاء رباعية الاسكندرية الروائية من جوستين دوساد. على الضد من السورياليين لايرى البير كامو في كتابه الفلسفي ( الانسان المتمرد ) إلا قيمة ثانوية لكتابات دوساد الأدبية إذ يقول (أدبه ثانوي ، بعد كونه أنموذجا للعنف والقسوة ، رغم ثناء معاصرينا الطائش فهو محط إعجاب ساذج ،إنما لأسباب لاتمت للأدب باية صلة ). متغيرات العصر الثقافية والقيمية تطيح دائما بالأحكام المستندة الى تقاليد الأمس وقيمه وتستفيد من الصروح البائدة، مثلما تطيح بالحواجز بين البشر والأعراق وتقرب بين الثقافات، وكما أعاد السورياليون الاعتبار للمركيز دوساد ، أعيد الإعتبار للقلعة الموصومة وانتقلت ملكيتها من ورثة المركيز الى فنان معاصر هو مصمم الأزياء الشهير ( بير كاردان )الذي اسهم في ازالة غبار الفضيحة عن لاكوست وقلعتها ومنحها دورا في انتاج الثقافة سواء بتأسيس معهد للتصميم الراقي فيها او بإقامة المهرجانات الصيفية في القرية التي كانت شبه منسية، يتطلع زوارها بفضول إلى أسرار مالكها الجديد بيير كاردان دون أن ينسوا شبح المركيز الماجن الحائم في جنباتها وهم ينعمون بمتع ثقافية راقية في ليالي مهرجان المسرح ..
قناديل :يرممون بالثقافة ماخربه المركيز الجامح
نشر في: 28 فبراير, 2010: 04:51 م