اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الوعي الباطن للثقافة العراقيّة

الوعي الباطن للثقافة العراقيّة

نشر في: 9 أكتوبر, 2017: 09:01 م

في أوقات الأزمات (ومثلها أزمة استفتاء أقليم كردستان الراهنة) تظهر، عند شرائح كثيرة من المجتمع، وفئاته وطوائفه وأعراقه أنواعٌ مطمورة من المكبوتات الاجتماعية والسياسية، وتطال الساسة على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم وقومياتهم، وتسخر من مأساوية (الراهن) عبر الأمثال والفكاهات والتعابير العامية، وتتقدّم الأمنيات ورسائل المحبة ورفض الحروب حيناً، وحيناً يتقدّم نقيضها على هيئة أحقاد مريرة عند البعض، دفينة، متفجّرة. ويختلط حيناً آخر حابلها بنابلها، وهو يمزج الفكرة بالأمنية، والتحليل بالحلم، والموضوع بالوهم. في حالات المآزق الكبرى يطلّ علينا (لاوعي) جماعيّ، واهم أو صائب، وفي الحالات الفردية يظهر (لاوعي) فرديّ، لا يفعل سوى الاغتراف من ترسبات التجارب القديمة، أو يغترف من الأيديولوجيات القومانية والسيوسيولوجية والدينية التي ترعرع فيها. وقد اختصرَ الحالةَ المثلُ الشعبيّ العراقيّ القائل (اللي بعبه طلي يمعمع = الذي يحمل في عبّه خروف، يُسْمَع صوت مأمأته)، بل أنه أوْفَى مفهوم عالم النفسي سيغموند فرويد عن اللاوعي (أو العقل الباطن Unconscious L'inconscient)، إذا لن يكن اعتبارنا مُفْرطاً. فلعلّ قائلاً يقول بأننا نقوم بعملية إسقاط ثقافيّ محض، حتى لا نقول بأننا في صلب عقدة إيجاد أصول مُتَوَهَّمَة أُوْلَى لكلّ قضية.
لكن، لنقل إن اللاوعي كناية عن مخزنٍ للاختبارات المترسّبة بفعل القمع النفسيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والتاريخي، فلا تصل إلى الذاكرة الصاحية. ومن هنا يحتوي العقل الباطن على الآليات والمحفزات الداخلية للسلوك البشريّ، كما أنه، كما هو معروف للدارسين، مقرّ الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية، بالإضافة إلى الخبرات المكبوتة. لذا فإن (الذي يحمل في عبّه خروفاً، إنما يُسْمَع صوت مأمأته للآخرين) كناية بليغة، كما نرى، عن اللاوعي. لو افترضنا، سيُجادل مُجادِل وهو يرى تدفقات غريبة من الأفكار الهائمة هذه الأيام، أن المثل يشير إلى اللاوعي، فإن طبيعة هذا اللاوعي تختلف في المجتمعات المتحضّرة عن طبيعته في المجتمعات المتخلفة، مثل مجتمعنا العربيّ، والعراقيّ الذي يعنينا هذه الأيام. في الثقافات المتحضرة يمكن السيطرة عليه أو على بعضه، وفي المتخلفة يندلق اندلاقاً في كلّ مناسبة، حتى على ألسنة مثقفين وكتاب. هذا هو الفارق بين لاوعي الرجل الصناعيّ ولاوعي الفلاح والبدويّ...الخ.
في الحقيقة، ستُجيب خصمكَ، أن من الصعب التفكير بطبيعتين للاوعي الواحد هذا نفسه. ولا يبدو منطقياً قبول الرأي بوجود لاوعيٍ مختلف عند هذا وذاك من البشر. فالكائن الإنسانيّ واحد.
وسيصرّ المساجِل على وجود طبيعتين، هما في جوهرهما ثقافتان تُشكّلان مضمون اللاوعي، وسيَذْكُر لك، على سبيل المثال، شأن الحانة في أوربا وشأنها بالمقابل في العراق والعالم العربيّ. ثمة (لاوعيان) اثنان مختلفان يتصاعدان من أفواه السكارى في فضائين. وقد ظهر مثل ذلك في تسجيلات غنائية شخصية، بل مَخفية (مطمورة)، مثل التسجيل الغنائيّ الطويل للراحل مغني المقامات الكبير يوسف عمر يتضمن كلاماً جنسياً صريحاً: لقد تدفّق اللاوعي الاجتماعيّ واندلق، ليصير تعبيراً عن لاوعٍ محليّ تصاعد في لحظة ثمالةٍ، وتعبيراً عن نزوع جماعيّ ورغبة مكبوتة، مسكوت عنها ومطمورة في اللاوعي المحليّ، في الغالب الأعمّ.
إن المرء ليخشى في بعض السجالات الحالية، أن الكثير منا لم يتخلّص من أفكارٍ ومعتقداتٍ، ما زالت مترسّبة في داخله. ونخصّ بالذكر منهم المثقفين والسياسيين. ففي بُعْد واحد من أبعاده، يُمثِّل الفكر الشوفينيّ، أياً كانت قوميته، وبَعْدما شهدته بلداننا من كوارث وحروب وتدهور على المستويين الاقتصاديّ والتعليميّ، راسباً من رواسب هذا اللاوعي، الضارب عميقاً، الذي يتصاعد الأدريالين بسببه وصولاً إلى ما لا يُحمد عقباه.
هل من العبث الدعوة لرؤية طريقة اشتغال (لاوعينا)، الجمعيّ والفرديّ، في أوقات الأزمة، والتنقيب فيه، لو استطعنا إلى ذلك سبيلاً؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram