في التاسع عشر من شهر حزيران عام 1937 فوجئ رئيس الوزراء حكمت سليمان بثلاث استقالات على مكتبه رفعها كل من كامل الجادرجي وزير الاقتصاد والمواصلات وجعفر أبو التمن وزير المالية ويوسف عز الدين وزير المعارف، وكان هؤلاء الوزراء الثلاثة يمثلون جماعة الأهالي في الوزارة التي تشكلت أثر الانقلاب العسكري الذي قام به الفريق بكر صدقي يوم 29 تشرين الأول عام 1936 وأطاح بوزارة ياسين الهاشمي.
خطوات جريئةالمعروف عن ياسين الهاشمي كونه سياسياً وطنياً قومي الاتجاه اشتهر بمعارضته لمعاهدة 1922 التي وافق عليها أول مجلس تأسيسي تشكل بعد الاستقلال ومعارضته لمعاهدة 1930 التي أبرمها نوري السعيد مع بريطانيا وله مواقف تجاه الإنكليز كانت تعتبر في الظروف السائدة يوم ذاك خطوات جريئة قلما يخاطر في تبنيها أي سياسي في بلد حديث الاستقلال كالعراق حتى أن بعض الصحف في سوريا ومصر أطلقت عليه لقب (بسمارك العرب) إشارة الى دعوته للجامعة العربية.جماعة الأهاليأما جماعة الأهالي فهم عبارة عن تجمع ضم شباناً من المثقفين الذين أنهوا دراساتهم العليا خارج العراق وعادوا متأثرين بالمفاهيم السياسية الغربية التي سادت أوربا أثر إنتهاء الحرب العالمية الأولى وهم كل من محمد حديد وحسين جميل وعبد الفتاح إبراهيم وعبد القادر إسماعيل، وكان الهدف الذي يدعو إليه التجمع هو التخلص من قيود معاهدة 1930 وتحقيق الاستقلال الكامل للعراق وهو مطلب تبنته الحركة الوطنية العراقية التي كان ياسين الهاشمي أحد رموزها ولكن الشيء الذي امتازت به هذه النخبة المثقفة هو تبنيها للديمقراطية كأسلوب لتحقيق حكم وطني سليم، يقول السيد حسين جميل (إن العمل الوطني والعمل لتحقيق الديمقراطية كانا متلازمين في فكر جماعة الأهالي)، وقد قررت الجماعة إصدار جريدة ناطقة باسمها هي (الأهالي) التي صدرت أوائل عام 1932 ولم يكن كامل الجادرجي من مؤسسي جماعة الأهالي لأنه كان منتمياً الى حزب الشعب الذي يترأسه الهاشمي وبعد توقف هذا الحزب لعدم الانسجام بين أعضائه المؤسسين اشترك الجادرجي مع الهاشمي في تأسيس حزب جديد هو حزب الإخاء الوطني الذي سرعان ما عقد تحالفاً مع الحزب الوطني برئاسة جعفر أبو التمن ثم انضم الى هذا التحالف عدد من الساسة المعارضين أمثال رشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان، لقد شكل هذا التكتل النيابي المعارض خطراً على التيار السياسي المؤيد لمعاهدة 1930 ما دفع الملك فيصل الأول الى العمل على حله فعمد الى تكليف رشيد عالي لتأليف الوزارة فشكلها في آذار عام 1933 واختار معه ياسين الهاشمي وزيراً للمالية وحكمت سليمان وزيراً للداخلية وفي الوقت نفسه تجاهل الكيلاني تحالفه مع الحزب الوطني فلم يضم في وزارته ممثلاً عنه كما بقي الجادرجي خارج الوزارة.rnأفضل وسيلة لكسب المؤيدينلقد أدت هذه التطورات الى ابتعاد الجادرجي عن ياسين الهاشمي ولجوئه الى جماعة الأهالي حيث رأى ان أفكار أعضاء الجماعة أقرب إليه مما كان يدعو له الهاشمي والكيلاني، وهكذا انضم الى الجماعة عام 1933 ثم نجح في ضم جعفر أبو التمن الذي سبق أن أعلن اعتزاله العمل السياسي، وعندما استقالت وزارة الكيلاني بعد نحو ستة أشهر سعى الجادرجي الى اقامة نوع من التفاهم بين أبو التمن وحكمت سليمان وهكذا تكونت كتلة سياسية أسسها جماعة الأهالي تضم عدداً من الوزراء السابقين وعدداً من المثقفين من ذوي الطموحات السياسية والاجتماعية التي اكتسبوها خلال دراستهم في أوروبا والولايات المتحدة.رأت جماعة الأهالي أن أفضل وسيلة لكسب المؤيدين هي الدعاية وإن خير من يعبر عن آرائها وأفكارها هي الصحافة وقد بذلوا قصارى جهدهم في استمرار صدور صحيفة تنطق بلسانهم برغم لجوء السلطات الى المصادرة والغلق.ما هي الأفكار التي تبناها أعضاء جماعة الأهالي والتي عبروا عنها من خلال جرائدهم التي كانوا يعتبرونها لسان حالهم كـ (الأهالي) و (صوت الأهالي) و (المبدأ) وغيرها؟تؤمن الجماعة بأن علة العلل في تأخر العراق هي فقدان الحياة الديمقراطية وإن المدخل لإصلاح الأوضاع هو إقامة النظام الديمقراطي الذي يعكس حاجات الشعب ورغباته، وإن احتفاظ الشعب بالسيادة هو الأصل في كل وضع سليم مستتب وليس من حارس لمنافع الشعب كالشعب ذاته وإن النظام البعيد جداً عن الديمقراطية الحقيقية بعيد جداً عن الشعب لأنه قائم على أساس استخدام السواد الأعظم لفائدة فئة قليلة من الرأس ماليين، وهكذا كانت صحف الأهالي لا تكاد تخلو من الدعوة الى الديمقراطية في افتتاحياتها اليومية التي كان يحررها أعضاء الجماعة وفي مقدمتهم الجادرجي، هذا من الناحية المعنوية أما من الناحية العملية فقد تبنت الجماعة العمل السري بعد ان تمكن الجادرجي من تولي زمام القيادة فيها وكانت جمعية السعي لمكافحة الأمية الواجهة العلنية لتنظيم سياسي سري ضم عدداً من الشباب المثقف المتعطش للمساهمة في العمل السياسي.إن الأمر الذي يجلب النظر في هذه الجماعة هو الأسس البرجوازية التي ينتمي إليها معظم الأعضاء ومع ذلك فقد كانوا يشيدون بالتقدم الذي أحرزته روسيا في المجال الاقتصادي بفضل النظام الاشتراكي والشيوعي ويهاجمون الفكرة القومية باعتبارها خطوة استعمارية تقود الشعب نحو الحرب، كما بادروا الى طبع وتوزيع منشورات سرية تهاجم الحكومات القائمة وتدعو الى الثورة وإزالة الفوارق بين الطبقات وتطبيق الديمقراطية في الحكم.اتصال
استقالة الجادرجي وابو التمن تشعل فتيل أزمة سياسية
نشر في: 28 فبراير, 2010: 05:08 م