خلال الأعوام الأكثر حماقة في التاريخ الأوروبي، بين العام 1920 والعام 1940، شاعت عبادة البطل. في ذلك الوقت، جرت العادة أن يُقسم العالم إلى معسكرين: معسكر البورجوازيين الذين كانت تُلصق بهم كل الصفات السيئة (الجشع، الأنانية والجبن!)، ومعسكر الثوريين، الذين كانت تُمنح لهم كل الصفات الجيدة (الطهارة، الكرم، البطولة والأصالة). لكن تظل مفارقة المفارقات هي أن "فلاحي" البطل الثوري، الذين كانوا يروجون لهم، ويسيرون في المظاهرات هاتفين باسمه، كان أغلبهم بورجوازي الأصل. في تلك السنوات أنشدت حناجر الفاشيين الإيطاليين، والنازيين الألمان والفالانغا الإسبانيين (وكل الحركات الأخرى التي جاءت من الطبقة الوسطى)، موت الأبطال كقدر مثالي للرجل المتفوق. في تلك المرحلة لم تكن هناك نساء متفوقات، لكن العديد منهن كن ينتهين مثل نعجات في سرير "دانونزيو"، بطل موسيليني المثالي، دون أن يعرفن أن اسمه الحقيقية كان "غابرييلا راسباغنيته".
من الجانب الآخر للخندق، كانت البورجوازية السوفيتية تُنشد شعراً ذكورياً يُمجد البطل الأممي. وبالتوازي مع الشيوعية الروسية، نشأت أسطورة أبطال، كانوا يعيبون على السوفييت عدم حماسهم الثوري، وأنهم هم الأكثر أممية وثورية. هكذا سارت قافلة الأبطال في قرننا الماضي، وكان آخر محتضريها "الأبطال"، ماوتسي تونغ، بول بوت، وتيتو توصلوا، اكثر من غيرهم، في ضخ الدم إلى أبناء الطبقة البورجوازية، الذين يعانون من سقم الحياة اليومية، العاطلين عن فعل أي شيء، لكنهم سعداء بأن هناك آخرين يذبحون أنفسهم قرباناً في سبيل القضايا "العظيمة"، أو في سبيل "المبادئ"، على نظرية إبن العوجة وأحفاده الذين نزعوا الزيتوني ولبسوا ما شاء من أزياء دينية تدّعي الطهرانية من بعده!
على أية حال، مهما بدت صورة البطل هذه، قاتمة، فإنها احتفظت ببعض الرتوش "الأدبية" أو "الحلمية" التي تقدمها بصورة مختلفة وتزودها بقليل من الضوء، على عكس صورة الأبطال الجدد، التي طلت علينا في السنوات الأخيرة، وراحت تقتحم حياتنا اليومية، وتطاردنا حيثما نذهب. أنها صورة مختلفة تماماً، تلك التي جاءت مع دخول آخر شرذمة إلى مشهد البطولة؛ شرذمة الانتحاريين الإسلاميين، الذين هم في الحقيقة نتاج مشوه ووحشي لتقليد أوروبي خالص مثلما هو تقليد شرقي خالص أيضاً. أنهم بالفعل (وإن لم يعلموا) يتحركون في المكان الذي لا يفسح مجالاً لـ "صراع الحضارات" أو "صراع الثقافات"، في المكان الذي "يوحد الحضارات"، فللمرة الأولى يلتقي في سلوك هؤلاء الأشخاص، كل ما هو دموي ووحشي ومجرم، أنتجته الحضارات بكل اختلافاتها في تاريخها. الانتحاريون هم خلاصة كل هذا البروتسيس المضاد للحرية ولّليبرالية الذي جرّ نفسه على مر العصور.
أبطال أواخر سنوات القرن الماضي، الذين افتتحوا القرن الجديد بالانتحار، يثيرون الرثاء، إن لم يثيروا الاشمئزاز، وهم في الحقيقة غير مؤمنين مهما ادعوا من إيمان. أنهم يصلون ويصومون ويّدعون العفة، ويبشرون بحب الله، رغم أنهم يقتلون عشرات الأطفال يومياً باسم الله. انهم يحتقرون كل الطبقات، البورجوازية والبروليتارية، أحزمتهم الناسفة لا تميز بين الحاكم أو طباخه، بين المرأة والرجل، بين الشيخ والعجوز، بين الطفل والحيوان. أنهم يقتلون حتى الأشجار. إنهم بالمحصلة النهائية ضد الحياة، وبالنسبة لهم، الشخص الوحيد المؤهل لإنقاذ العالم، هو شيخ أمي، ذكوري، بارانويكي، والذي رغم تحركه الصعب، قادر على ضخ الحقد والعدوان في دمائهم، لأن كلماته السريعة "النارية"، هي دستورهم في الحياة، والموت الذي يبشر به يومياً هو وطنهم الدائم.
الانتحاريون الاسلاميون يحرروننا في النهاية من الشكوك التي يمكن أن تكون ما تزال باقية عندنا من قراءاتنا القديمة لدوستويفسكي وأندريه مالرو وسارتر، لكي نميز بين بطل "روائي" حالم بعض الشيء وبين ضعيف عقل ومجرم يتوسل البطولة رغماً عن أنف الجميع بالقوة.
نهاية البطل على يد الانتحاريين
[post-views]
نشر في: 10 أكتوبر, 2017: 09:01 م