مثل كلّ الأشياء، السياسة لها دلالات في بلدان ما سُمّي بالعالم الثالث، والعراق واحد منها، تختلف عمّا في دول العالم المتحضّر. كما أنّ لها استخدامات لا وجود لها في قواميس تلك الدول وفي تداول مجتمعاتها، ويجمع بينها كلّها، اعتماد المقولة الشهيرة "السياسة فنّ الممكنات " .
وهي إذ تدخل في التداول الاجتماعي والسياسي في الدول الديمقراطية، تكتسب حضوراً يعكس الحراك السياسي، والصراع بين الفئات والطبقات والنخب السياسية والأحزاب، لضبط التوازنات وإعادة الاصطفاف بين القوى المتصارعة وفقاً لالتقاء المصالح والمصاهرات بين مراكز النفوذ والمنافسة في ما بينها على سلطة القرار. وهنا يصبح " الممكن" رهناً بحدود التنازلات وتكييفاً للمصالح، وما تحدده من الاعتماد على القيم الأصغر في سباق السياسة، سواء من حيث القوة العددية الأصغر، أو من حيث النفوذ السياسي والفكري. وكثيراً ما تدلّل هذه المقولة على ترجيح كفة التوازن بالتحالف مع أحزاب صغيرة، وربما شخصيات مستقلة من شأنها حسم الصراع.
لكنْ للممكنات في بلداننا المُصِرّة على التخلف، فنون تُبتَدع في كل يوم بل كل لحظة، خارج سياقاتها المفهومية، لتتخذ فرادتها مما يُراد له من إيهام المواطن والرأي العام، من تدليسٍ وخديعة وتخديرٍ وتزييفٍ للحقائق، مع ما تتطلبه من توظيف للدين والطائفة والمذهب والشعائر، وما تعتمده من أساليب ووسائل وأدوات تنافي الحياء والحرمات.
إنّ فنّ الممكنات يتحول في عراقنا على وجه التحديد وما يتشابه معها من بلادٍ حباها الله بغضبه ونقمته، إلى أداة استعارةٍ، استطاعت الطبقة السياسية المتنفذة، بما صار في حوزتها من المال العام الحرام المنهوب من خزائن شِبه الدولة اليتيمة ومن نفوذ مباشر في أركان الدولة، حتى دوائرها الصغيرة، وأذرعة مسلّحة علنية ومخفية، أن تضفي عليها معاني ومفاهيم وأراجيز لتبييض سوءاتها وابتكار كلّ ما يعمّق تجهيلاً لأوسع أوساط المجتمع ويجعلها مطواعة، رهن إشارة رموز الفساد وتفكيك النسيج الوطني وإيقاظ مكامن الفُرقة والفتن والتشظّي.
وأي متابعةٍ متأنية لما مرّ به العراق منذ انهيار حكم الطاغية في نيسان ٢٠٠٣ حتى الآن، سيُظهِر تعبيرات الرثاثة المطلقة وتجلياتها الملموسة، لمن صاروا أسياد البلد، والمقررين بلا اقتدار لحاضره ومستقبله. وليس في تلك التعبيرات والتجليات ما له علاقة باستنهاض المجتمع وإيقاظه من غفلته وخدره وأوهامه، بل فيها كل ما يعمّق أزمته الوجودية ويناقض تشوّفاته الإنسانية المكبوتة، مع واقعه المجَرّد من أبسط وسائل العيش وأدنى مستويات الحياة الإنسانية الكريمة.
وفي أساس كل ترسانة الطبقة النافذة، ابتعاث تلاوين مشوهة، مشبوهة المقاصد، للقيم الدينية - المذهبية، وابتكار شعائر غرائبية كتعبير لها وإشاعتها في الوعي العام . وكلما كانت القيم وابتكارات شعائرها أكثر غُلوّاً وتطرّفاً، صارت منصّات إثارة للتنافر، واستفزاز مشاعر الآخر، وكمائن للضغائن والاحقاد والفتن .
إنّ ممكنات فن السياسة كانت سبيلاً للانفتاح على صياغة نهجٍ وطنيٍ يعيد صياغة التنوع والتعدد في إطار عراقٍ مُشبَعٍ بالحقوق المتساوية والعدالة الاجتماعية، والحريات السياسية والمعتقدية تتأطر في رحاب المواطنة. غير أنّ ممكنات فن السياسة لرموز الحكم والفساد والتعدي، كانت على الضد مما تتوق وتتطلع لاستشرافه القوى والاوساط الحيّة النابضة في العراق المأسور الإرادة .
إنها ذات الممكنات التي وضعت عراق ما بعد الاستبداد الشمولي الساقط، في كماشة الازمات المتواصلة التي ظلت تعيد إنتاج المواجهات الطائفية والمذهبية، وكادت تودي بالبلاد الى منحدر الحرب الأهلية، ثم أغرقته في الفساد والخراب واستدعاء الإرهاب والتكفير بالمصاهرة معها؛ كوجه من وجوهها، وانتهت بإتلاف أدوات إعادة ترميم خرائب شبه الدولة، وتلويث الوعي المجتمعي وجعله نهباً لأدنى الغرائز والمفاهيم والقيم، وتأتي على ما تبقّى من أمل ورجاء بمعافاة وطن يُراد له أن يظل في حالة مرضٍ سريري، لتبقى لهم فرص النهب والسلطة والجاه في مأمن من المساءلة والعقاب .
وقد استطاعت الزمرة المتنفذة، باقتدار، بكل ما أوتيت من وسائل تخريب الوعي، أن تحوّل فنّ الممكنات الى مكبّ للنفايات.
ومنذ أيام انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي ما يدّعي مروّجوها أنها الشعيرة البديلة عن التطبير، وهي " اللطم بالنِّعِل "، باعتباره الأبلغ تعبيراً عن الحزن على الإمام الشهيد!
ومع هذه "الشعيرة" لم تعد الانتخابات القادمة بحاجة لمفوضيّة جديدة، ولا إعادة نظر بقانون منصف للانتخابات ..!
السياسة فَنُّ المُمكِنات .. مكَبّاً للنفايات ..!
[post-views]
نشر في: 11 أكتوبر, 2017: 05:33 م