عشرات الزوارق والمراكب الشراعية والسفن الصغيرة تَمُرُّ كل يوم بمحاذاتي وأنا أرسم. تمضي مسترخية وهي تقطع القناة المائية التي يطل عليها المرسم الذي يحيطه الماء من الجانبين. أتمتع كثيراً بهذه الأشكال الملونة التي تعودت على رؤيتها وهي تتهادى على صفحة الماء بنعومة، كما تتهادى فتيات هولندا الجميلات في الحدائق والشوارع والأماكن العامة. كان بيكاسو يقول (حين أتجول أو اقضي بعض الوقت بين الأشجار والمزارع، أعود الى مرسمي بعدها لتفريغ ما حملته من اللون الأخضر على قماشات الرسم). أُصَدِّقُ ذلك كثيراً وأشعر به في أغلب الأحيان، وأرى أن الطبيعة والمشاهدات وكل ما يحيط بالفنان ينعكس على رسومه واعماله كما ينعكس لون السماء فوق سطح البحر وتتلألأ الأضوية على وجه النهر. ومثلما تنعكس وجوهنا في المرايا، تنعكس الموجودات والتفاصيل التي نعيش بينها علـى قماشات الرسم. يسألني الكثيرون عن سر اللونين الأخضر والأزرق في أغلب لوحاتي، فأشيرُ الى الماء والخضرة التي تحيطني، حيث يعقد بحر الشمال خاصرته التي بلون التركواز حول مقاطعة فريسلاند التي أعيش فيها.
في إحدى المرات عرضت لوحاتي في جزيرة أمالاند التابعة للأراضي الهولندية، وهناك لاحظت أن لوحات كل الرسامين تقريباً مستطيلة جداً، ويرسمونها بشكل أفقي، عندها سألت صديقي الرسام التجريدي توم بايل الذي يعيش هناك عن سبب ذلك، فقال لي (اننا ياصديقي نطلّ على البحر في كل لحظات حياتنا، انظر الى هذا الأفق المفتوح نحو الجانبين، إنه ينعكس على أشكال وحجوم لوحاتنا أيضاً) ثم أردف ضاحكاً (ستار، لو كنت تعيش مثلي وسط الماء، لأصبحت كل لوحاتك أفقية!). على كل حال يبقى الفنان ابن الطبيعة والمناخ والظروف التي يعيش فيها، وهذه كلها تؤثر بشكل أو آخر في أعماله. لقد ساعد نهر السين الفنانين الانطباعيين كثيراً ومنحهم فسحة ليرسموه في مئات اللوحات، حيث تنعكس أشكال الناس والاشجار والمراكب فوق صفحته وتتحرك الاشكال بشكل زئبقي، ووظفوا ذلك كله بفرشاة ترقص وتتحرك على الكانفاس بعذوبة قَلَّ نظيرها. الفنان يستلهم الكثير من الطبيعة، وسواء كانت هذه الطبيعة حرائق أم ضباباً فإن براعة الفنان سوف ترصدها بشكل صحيح وتستلهم طاقتها الجمالية كما فعل الفنان وليم تيرنر مع ضباب لندن وحرائق السفن البعيدة وهو يطلّ من نافذة مرسمه على البحر بمنطقة تشيلسي. كذلك حين وضع فنسنت فان غوخ أولى خطواته في باريس، لتختفي الى الأبد كل ألوان مدرسة لاهاي المعتمة التي كانت تغلف لوحاته، وظهرت من بين أصابعه الألوان القزحية المشرقة التي تداعب وجه مدينة النور، ليغير بعدها تاريخ الرسم من خلال هذه الإشراقة التي ملأت روحه ولوحاته. هناك ايضاً بعض الفنانين الذين وجدوا أنفسهم في اماكن معينة فرضتها عليهم بعض الظروف، مثلما وجد الرسام ديغا نفسه وسط راقصات الباليه وهو يحمل أوراق الرسم ويضع في جيبه مجموعة من أصابع الباستيل، بعد أن ضعف بصره كثيراً ولم يكن بإستطاعته السيطرة على الرسم بالألوان الزيتية، وهكذا أوجد هذا الحل العظيم للخلاص من مشكلته وانجز اعمالاً عظيمة بالباستيل.
كل ما يحيط بالفنان يؤثر في أعماله سلباً أو إيجاباً، وهذا لا يعني بأن الفنان يتأثر وينقل ذلك حرفياً، بل هو يستجيب لبعض المؤثرات التي تتراءى أمامه ويحاول أن يجد لها حلولاً تشكيلية مناسبة، وهذا ينطبق حتى على العمارة التي تأخذ بنظر الاعتبار المكان المحيط بالبناء والمناخ وطبيعة المؤثرات الخارجية، وحتى شكل البناء يكون في الغالب مستوحى بشكل تجريدي من شكل موجود أصلاً في الطبيعة. يبقى استلهامنا لما يحيطنا من تفاصيل يشكل نصف الحكاية، والنصف الآخر منها هو كيف نمسك بكل ذلك، ونقدم من خلاله أعمالاً مهمة وجميلة ومؤثرة.
سرُّ اللوحات الأفقية
[post-views]
نشر في: 13 أكتوبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...