TOP

جريدة المدى > عام > الشعر لغير الفن.. والشعر فناً..

الشعر لغير الفن.. والشعر فناً..

نشر في: 15 أكتوبر, 2017: 12:01 ص

أردتُ ان اقول "الشعر لغير الشعر" ثم استدركت فقلت الشعر لغير الفن. وهذا يعني انني أريد الحديث عن الشعر من غير جهد وثقافة فنيين أي عن كلام وغرض. وهو غير ما اصطلحنا عليه فن شعري ينتج عن ثقافة وصقل وصياغات فنية. يمكنك أن تقول أي شيء، سواءٌ كان معلومة تار

أردتُ ان اقول "الشعر لغير الشعر" ثم استدركت فقلت الشعر لغير الفن. وهذا يعني انني أريد الحديث عن الشعر من غير جهد وثقافة فنيين أي عن كلام وغرض. وهو غير ما اصطلحنا عليه فن شعري ينتج عن ثقافة وصقل وصياغات فنية. يمكنك أن تقول أي شيء، سواءٌ كان معلومة تاريخية أو علمية أو توجيهاً أخلاقياً، ومن دون أن يكون ذلك فناً شعرياً.

هذا موضوع يحسن أن يكون بيد باحث اكاديمي لا مقالة صحفية. تعلمون أن الكتابة في الصحافة اليومية تتخذ طابع الايجاز والتبسيط  لأنها معدّة أصلاً للقارئ العام وإن قرأها المتخصص. هذا يعني أن تكون الكتابة علميةً عموماً وسليمة لكن بما يناسب الصحافة اليومية وقرّائها. يحزُ بنفسي أن تكون المقالة مبسّطة لهذا الحد وبلا مراجع. ولكنها الصحافة وهو عملنا.
الشعر في المجتمع مُمتَحن بمسألتين، الأولى إن عموم المجتمع مهموم بخبزه وعمله اليومي واحتياجاته وهو يحتاج تعبيراً مباشراً عن مفردات حياته وهمومه، وبلغته هو التي يفهمها وإبعاد الفحوى بالرمز والصيغ الغامضة. فالاستعارية العالية وتعدد الدلالات مما يربك ويضيع غير المعني بالشعر والذي يريد شيئاً يفهمه بإيقاعات تثيره وتشوقه للمزيد. وطبعاً هذا يبعد الشعر من أن يكون عملاً فنياً. أما خلافه فيقصر الاهتمام به على النخبة أو المعنيين بهذا الفن. وهنا نكون امام إغرائين، الأول شعبي واسع يريد كلاماً في الجنس في السياسة وبخاصة شتم الأوضاع وهجاء الحكام أو بالسخرية الشعبية من مفارقات العيش والعمل.. الكلام بهذا الموضوع يمكن أيضا أن تتناوله القصائد التي نصفها بالفن الشعري، لكن باستعارية أو رمزية أو بأسلوبية لها صياغتها الإبداعية والأفق الدلالي الأوسع.
تلك المنظومات كثرت في الشعر العربي بعد العهد العباسي، بل في أواخره واستمرت باستمرار سوء الأوضاع والمستوى الثقافي المتقلب لعموم الناس. أما النخب أو المتخصصون، أو اصحاب الدرس، فهم يميزون جيداً بين النمطين أو المستويين الشعريين ولهم تقديرهم لكل منهما. هذا يتضح فيما شهدت به أقوالهم وفي ما تيسر لنا من مراجع، فما كان ذلك مجهولاً.
من الصنف الأول الذي اسميناه الشعر لغير الفن، لدينا امثلة كثيرة مشهورة وربما يحفظها الكثيرون إعجاباً أو شواهد يستعينون بها. من هذه ما ذكره الجاحظ فأشار الى مؤلفات شعرية في اصناف الحيوان وبعضها عن الفلك وبعضها عن احداث التاريخ وبعضها عن عجائب خلق الله ثم ألفية ابن مالك في النحو وسواها عديد في بحور الشعر واعاريضه. وهذه كلها تقع في باب الشعر التعليمي. ولولا لمحات شعراً فيها أحياناً. مثل ذلك يقع في المنظومات التي تؤرخ ولادةً أو وفاةً وأحياناً ختانً وزيجات ودعوات ولائم ..
هكذا تسحب الشعبية المتدارَكة والاجتماعيات اليومية الشعر ليكون وسيلة تعبير عن حقائق علمية أو عن وصايا اخلاقية أو طرائف وأمور آنية أخرى مما في حياتنا اليومية وبلا افق فكري أو فني، لكن لها شكل الشعر.
بقاء هذا النظم، عفواً استمرارية بعضه وبخاصة الخطابي، والذي يتضمن هجاءً اجتماعياً، ما يزال يشغل حيزاً كبيراً من "الشعر" الذي يحتاج له ويردده بل ويحفظه الناس. لا لوم عليهم فهم مشغولون بمتاعب العيش وسوء الحال وعيوب المجتمع ويريدون الكلام العلني العالي النغمة تعبيراً عن ذلك الواقع أو الحال لعلّ سبباً لتغييره. هم ليسوا طلاب فن.
المسألة الوسطى والتي يمكن وحدها أن تكون موضوعة بحث، هي الشعر الصوفي والذي شكل ظاهرة متميزة بالقرنين الثالث والرابع. فهذا الشعر لا يمكن وصفه بالفن ولا نقرأه فناً. هو تعبير عن أفكار وتشوقات ورؤى مفتَرضة، كتبه وألفه أفراد كوّنوا مجتمعاً خاصاً بهم ولهم ثقافة خاصة، كما لهم تعابيرهم ومصطلحاتهم التي يتبادلون فهمها بعيداً عن عموم الناس. وبهذا، وبحكم تلك المضامين، هو قريب من الفن الشعري وبعض منه شعرٌ حقيقي، ولكنه أصلاً منظومات أفكار. شخصياً أظن هذه الظاهرة، لو اتسعت وبذل فيها اصحابها جهداً فنياً وتعبوا في صياغات اشعارهم أكثر وخرجوا من الطوق الذي حبسوا أرواحهم فيه، لصارَ لنا شعرٌ متميز وفن جدير بالتطور. "فللشعر الصوفي قطبٌ واحد هو ذات المتصوف وموضوعه هو الاغتراب عن العالم ومحاولة الاغتراب أو البعد عن الذات بافنائها في الرؤيا أو الخالق. " وما فيه من حدس يجعله قابلاً لأن يكون عالماً شعرياً جديداً ومهماً لكنهم حصروا انفسهم بطوق لا يتجاوزونه مما جعل شعرهم يتسم بالتكرار والتشابه ولغتهم الشعرية لا تخلو من عيوب وفيها اخطاء نحوية أحياناً. وبسبب تقليد الواحد منهم الآخر صارت هذه العيوب مألوفة وصار بعض هذا الشعر مملاً .
هم لم يرتجوا الشعر ولكنهم ارادوه وسيلة تعبير محبذةً عن افكارهم، وهي أفكار محدودة معروفة.
نحن هنا بإزاء ظاهرة، أو ظواهر شعرية اكتسبت وتكتسب مدى اجتماعياً- عدا الشعر الصوفي الذي كان حصراً لأهله ومشاركيهم في النزوع والتفكير. وهذه كلها، وإن كُتِبت نظماً ما استطاعت أن تتجاوز النظم الى الفن الشعري بإيحاءاته وصياغاته وآفاقه إلا قليلاً.
لكن ما يجب أن ننتبه له أيضاً، ونحن ننهي كلامنا، انني وجدتُ في المراثي الحسينية القديمة والجديدة، وفي الفصحى والعامية، شعراً لا يخلو من خصب عاطفي أحياناً كما انه يبعدُ في احيان كثيرة عن مجرد نظم المأساة والتفجع والموالاة. من الفصيح مثلاً، لا أحد يستطيع أن يبعد السيد حيدر الحلي عن الشعر، ضمن مدرسته وزمنه. هكذا يبدأ السيد الحلي رثاءه العظيم:
عَثَرَ الدهرُ ويرجو أن يُقالا
تَرِبتْ كفُّكَ من راجٍ مُحالا
وأظن السبب، أن شعر المراثي الحسينية يطفح بأسى إنساني، وشخصي، فاجع وبآلام عميقة موغلة مما واجهته الانسانية وتواجهه الناس في هذه الأرض من رداءة احوال وسوء حكم ولما قدمته من خسائر وما اصابتهم من فواجع وكثرة ما ضحت وهي صاغرة أو ثائرة..
عموماً نحن نتوافر على منظومات أبعدها عن أن تكون فنّاً شعرياً متقدماً، إنها كانت استجابة بسيطة عن حاجات اجتماعية وإنها كانت وسيلة تعبير لعموم الناس. أما المثقفون والمعنيون بالآداب والفنون ودارسيهما، فلهم الشعر الذي ارتقى ليكون فنّاً. وهو عادةً ابعد رمزاً ودلالات وأوسع أفقاً وله صياغاته الفنية. على أية حال، هذان النمطان من هذا الشعر موجودان سيظلان معاً الى أزمنة أخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة
عام

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

د. نادية هناوي جددت المدرسة الانجلو أمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات أو اتجاهات كعلوم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram