(2 -3)رشيد الخيُّونسيرد أصحاب الدولة الدينية، وحسب ما يودون تسميتها بالإسلامية، على النصوص، التي وردت في الحلقة الأولى كافة، على أنها منسوخة، وهذا شأن المؤرخين والمفسرين لا شأن الدين، فقد نسخ أهل علم (الناسخ والمنسوخ) ثمان وتسعين آية،
ورد في إقرار السلم، والصفح والمسامحة، واللا إكراه، والاختيار، والحرية، والتعقل، والمودة على الوجه العام، نسخوها كافة بآية واحدة هي المعروفة بآية السَّيف: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"(التوبة أو براءة، آية: 5). وقيل الآيات التي أمرت بالقتل الأُخر من سورة التوبة أيضاً. فإذا ردَّ هؤلاء واحتجوا بهذا النسخ، وقد نسخوا من القرآن كل توادد وتراحم ومحبة وتسامح، ورفعوا منه كل تلك النصوص، يصعب الاتفاق على تلك المجزرة للآيات المقدسات. وهذا اعتقادهم لا يلزمنا ولنا اعتقادنا، الذي يحتفظ بآيات تتواءم مع التقدم الإنساني والإخاء الاجتماعي. فمن المعلوم أن كل ما يتعلق بالإجبار والكراهة والقتل هو محدد الزمنية له أسباب نزوله، وكل ما يفيد المودة والسلم له صفة الإطلاق والأبدية.قال هبة الله بن سَلامة البغدادي (ت 410 هـ) في نسخ آيات الصفح والتودد واللاإكراه وعدم السيطرة والحفظ والوكالة، وما أشرنا إليه من مجزرة الآيات: إن (هذه الآية (التوبه: 5) النَّاسخة، وذلك أنَّها نَسخت من القرآن مائة آية وأربعاً وعشرين آية). وفيه أتى البغدادي على تتبع السور وآياتها المنسوخات سورة سورة في كتابه (الناسخ والمنسوخ). ويعطي تقي الدين أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) سبب نسخ آيات الرحمة والتودد والسلم وغيرها بالقول: (وكان رسول الله (ص) وأصحابه يَعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الأذى ... وكان رسول الله (ص) يتأوَّل في العفو ما أمره الله، حتى أذن الله عزَّ وجلَّ فيهم).وكتب ابن تيمية أيضاً: (وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: "وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ"(الأنعام: 106)، "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ"(الخاشية، آية: 22)، "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ"(المائدة: 13). "وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا"(التغابن: 14)، (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِ"(البقرة: 109)، قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ"(الجاثية: 14)، ونحو هذا في القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فإنه نسخ ذلك كلَّه قوله تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"(التوبة أو براءة، آية: 5)، وقوله تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ"، إلى قوله: "َهُمْ صَاغِرُونَ"(التوبة: 29)، فنسخ هذا عفوه عن المشركين). ومن الواضح أن الفقهاء جعلوا ما له صفة الدوام، كالصفح والتودد والرحمة والمؤازرة والعفو، هو المؤقت والمحذوف من القرآن، فلا يعني النسخ غير الحذف، بينما جعلوا الطارئ، كالشدة والقتل والكراهية، هو الدائم والثابت في القرآن، ولم يعروا لأسباب النزول أدنى اهتمام في مثل هذه الأحوال، لذا جاءت سورة التوبة أو براءة حاذفة للعشرات من آيات التعايش الإنساني، حتى بعد زوال المشركين وانتهاء حربهم ضد الرسول وأصحابه، وبعد تثبيت الإسلام كديانة.وما يجري مجرى ما فهمناه من تلك الآيات هو أقوال النَّبي، وهي ليست بالقليلة أيضاً، أشار فيها إلى أن القضية قضية دين وليست دولة، منها حينما عرضت قريش على النَّبي المال والسلطان والشرف أجابهم قائلاً: (ما بيَّ ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلبُ أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا المُلك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً نذيراً، فبلغتكم رسالات ربَّي ونصحتُ لكم، لئن تقبلوا منَّي ما جئتكم به فهو حظكم في الدَّنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم). ومنه أيضاً ما جاء في باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وهو ما حدثَ به ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ ‏عن‏ ‏عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ عن ‏سُفْيَانُ عَنْ ‏ ‏عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ‏عَنْ ‏‏سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، قال النَّبي: ‏(وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ‏ ‏ذِمَّةَ ‏ ‏اللَّهِ ‏ ‏وَذِمَّةَ ‏نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ‏ ‏ذِمَّةَ ‏‏اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ ‏‏نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ‏ذِمَّتَكَ ‏وَذِمَّةَ‏ ‏أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ ‏‏أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ ‏‏أَنْ تُخْفِرُوا ‏ذِمَّةَ اللَّهِ&rlm
العلمانيــة والإمــامــة.. نصــوص لاتُجوّز الدولـة الـدينيـة
نشر في: 28 فبراير, 2010: 05:42 م