TOP

جريدة المدى > عام > ما يتبــــدّى مـــن الشعــــر

ما يتبــــدّى مـــن الشعــــر

نشر في: 17 أكتوبر, 2017: 12:01 ص

عنوان كهذا، نقصد به التبدي؛ يشتغل حصراً على شعرية قصيدة الشاعر (الأب يوسف سعيد) ذلك لأنه ينتمي إلى التنوع في الرؤى، والإفاضة في مكوّناتها إلى حد تشكيل نمط من أسطورية جديدة، بمعنى ــ أسطره ــ الواقع أو الواقعة. فالكثافة التي تنطوي عليها قصيدته تومئ بذ

عنوان كهذا، نقصد به التبدي؛ يشتغل حصراً على شعرية قصيدة الشاعر (الأب يوسف سعيد) ذلك لأنه ينتمي إلى التنوع في الرؤى، والإفاضة في مكوّناتها إلى حد تشكيل نمط من أسطورية جديدة، بمعنى ــ أسطره ــ الواقع أو الواقعة. فالكثافة التي تنطوي عليها قصيدته تومئ بذلك، محاولة أن لا تترك نوعاً من الزوائد في التعبير ولا فراغات سوى ما يُعين المتلقي الدارس على أن يبحث في ما وراء العبارة الشعرية من خزين معرفي له علاقة بالماضي والحاضر، وحصراً ما يتعلق بالتاريخ، لاسيّما بخصوص المفاهيم والرؤى.

، مكتفياً بخلق بؤرة للكلام الشعري ينحدر بكل تلقائية باتجاه تجميع تفرعات الرؤى وتكثيفها في بؤرة واحدة، أي في وحدة القصيدة وترابط أجزاءها مع بعض. ولعل ما يقودنا إلى تصور معرفي كهذا، أننا أمام شاعر أولا ً وأب في الفكر الديني ثانياً. وهاتان الصفتان تجمعهما الخاصية الإنسانية في بؤرة واحدة كما القصيدة . فالشاعر ــ الأب يجمع في تصوراته الكوني والدنيوي في صورة واحدة يمثلها الإنسان. وأرى أن هذه الخاصية هي التي ولـّـدت لنا شعراً لإنسان يمارس مفاهيمه  المختلفة ببعد واحد كبير ومكثــّف في  إنسانية الإنسان، التي تسعى المبادئ بعامة، سواء كانت سماوية أو وضعية، في التركيز على الإنسان. هذه الصورة في مفهوم  (الإنسان ــ الأب ــ الشاعر) هي التي دفعت بالأب الشاعر إلى أن يكون إحساسه الشعري بالوجود تلقائياً منطلقاً من مستقر مبدئي. وهو سبب يُضاف إليه الثقافة التي تحلى بها الشاعر ــ كما نرى ــ والتي رشحتها رؤاه في الشعر، في كونها كونية منفتحة ودنيوية شاملة ومستقرة ومتوازنة مفهوماً. فالكوني حين يتبدى أمام الإنسان يدفع إلى تساؤلات، وهذه التساؤلات هي التي تقود إلى الأسطورة. والأسطورة بشموليتها ونسقها المنفتح على الكون والوجود، لا تضع محددات للنص، بقدر ما ترمي إلى نوع من الحراك داخل منظومته الشكلية والموضوعية ، عبر تبادل الأوجه في التعبير من أجل الإغناء، سواء في المعنى أو المبنى. وكل هذا محكوم بجدلية في خلق النص المحدد في موقف.. يكون أو لا يكون. وأرى إنها ما يحقق الجلي لكشف مكوّنات النص، بحيث يصل به الى الصورة الأكثر إبهاراً  وسطوعاً . فاللغة في النص لا تحقق وجودها النامي والمتحرك والمتحول ، إلا إذا نـُظِرَ إليها على أنها ليست تقنية وحرفة وأداء ميكانيكية ، بقدر ما هي خاضعة لدوافع سيكولوجية . تهتم بما ينعكس فعلا ً من صور الوجود ضمن داخل المنتج، وبالتالي يخضعها إلى مجموعة رؤى تـُسهم في بلورة النص. فالشاعر غير ملزم بما ينطوي عليه الواقع من حراك يؤدي إلى خلق الانفعال الوجداني فقط، وإنما يخضع ذلك إلى الانتباه والاحساس بما تعكسه الأنساق التي عليها الواقع، ثم بما يفرزه من رموز وعلامات تكون الدليل الأكثر توفيقا ً في رؤية هذا الواقع. من هذا يتم التعامل مع  طبيعة محركاتها الداخلية ــ الذاتية ــ وعدم الاكتفاء بصورتها الخارجية ، أي حراكها المرئي ، لأن ذلك مدعاة إلى الاكتفاء بالانطباع السريع لها ، بينما يكون تأملها  يقود إلى التبصر في تشكيلاتها الذاتية لكي يخلق نوعاً من التعادل بين الموضوعي والذاتي. فعلى الرغم  من وجود صلة بين الشعر وتصوير المشهد، إلا أنه تصوير يخضع للذات، أي بما تراه هي وليس كما تخلقه ذاتية المشهد ، فالعين الرائية تستطلع، والعين المبصرة تتوغل. وهذا أيضاً  يخص الشعر باعتباره تصوير لما هو غير مرئي في نص مرئي .
إن قصيدة ( الأب يوسف سعيد ) تنحو إلى النزول بالكوني إلى مصاف الفعل اليومي، من خلال خلق صلة بين ما هو كوني، وما هو ذاتي موضوعي، يشكـّل مركز الصراع وجدل فرز الصور التي عليها الواقع. فما يراه بعينين باصرتين بجهد؛ هما عين الأب الذي يحمل رؤى دينية فلسفية، وبين رؤى شاعر يميل أيضاً إلى مستويين من النظر هما؛ رؤى واقعية محكومة بالعلاقات الإنسانية مع الموجودات، ورؤى محكومة بتصور ديني ولا أقول لاهوتياً. والثاني فيها كبير الشيء من الانفتاح على الأشياء والأفكار والمفاهيم والحالات الصغيرة والكبيرة  وجمعها في بؤرة التأثير المباشر وغير المباشر . من هذا أرى أن شعر (سعيد) ينحو إلى إنزال الكوني إلى الأرضي، لعقد زواج شرعي بين مكوّنين لا تفصل بينهما سوى حالات التحجر المذهبي والعنصري، مما يخلق نوعاً  من ارجاع الصدى. بينما نجد أن في شعره محاولة لخلق منطقة مهمة وحساسة اختارت أن تؤسس لها مبنى ومعنى متنوعا ً على طول شعرية الشاعر في ديوان  (طبعة ثانية للتاريخ). والعنوان ينطوي على نوع من التنبيه وإلى اعتراض على مستوى المدونة التاريخية ، أي  لمّا كانت هذه طبعة ثانية ، فلابد من وجود طبعة أولى . وما وجود الطبعة الثانية، إلا نوع من الاعتراض على المحتوى والنسق المدوّن سلباً  كان أو إيجاباً. فالطبعة الثانية تعني وجود اجتراح آخر لنفس البنية المراد تدوين تاريخها إلى جانب الرؤى المتفحصة لتلك التفاصيل التاريخية ،  فالعنوان ينطوي على نوع من العلاقة بالمتن الشعري، أي  أن في هذه الطبعة انطواء على الرؤى الجديدة. وهي دعوة من قبل الشعر لإعادة النظر في التاريخ المدوّن من جهة ، وإعطاء دور للنص الإبداعي في أرخنه وقائع التاريخ، ولكن برؤى فنية رفيعة. وهذا يذكرنا حصراً  بعلاقة الرواية بالتاريخ، ومستوى هذه العلاقة التي تـُلغي المكوّن الأساس عبر الانفتاح على التاريخ وفهمه فهما ً شاملاً  بعيداً عن وقائعه ورموزه وما ترتب عليه من رؤى وتصورات ذاتية وموضوعية. فمنتج النص الإبداعي يصوغ التاريخ برؤى فنية خالصة ، تفرز الصورة الأكثر نقاء، بعيداً عن رؤى المؤرخ المنحازة إلى هذا أو ذاك وفق أزمنة وأمكنة متغيرة .
من هذا نجد أن شعر (الأب يوسف سعيد)  ينطلق من الـتأسيس الرؤيوي المنطلق من التاريخ الإنساني، وهذا معلن من خلال العنوان الرئيسي كما ذكرنا، باعتبار أن ما يحتويه الديوان من قصائد، هي بمثابة إعادة تدوين التاريخ بطبعة ثانية .

الرؤية الثانية في الشعر
لعل النظرة الفاحصة لقصائد الديوان تستوقفنا العديد من المحاور التي عالجتها القصائد. وهذه المحاور تـُبأر في مركز واحد؛ هو إعادة النظر في الظواهر من خلال الانعكاسات الحسّية التي تركتها على الذات الإنسانية، متمثلة في ذات الشاعر. كانت اللغة الوسيط ذات خاصية إيحائية، تبدو مباشرة في سياقها الخطي، غير أنها في تشكـّل بنيتها على صعيد المعلن والمضمر، أكثر تركيزاً وأعقد بناء وأكثر كثافة. فاللغة الشعرية تحقق ذاتها كوسيط عال النبرة ، يستعين بالذاكرة أولاً، ثم الصياغة المتولدة من كثافة الرؤى ثانياً، محققة توازناً في إعطاء المعنى وبين إضماره ثالثاً. وفي جملة هذه المستويات نقف على قصائد مولدة للبنيات، مستخدمة الحفر والتشييد على ظواهر تبدو مألوفة، إلا أن الفضيلة في الشعر هنا، هو جعلها أكثر إبهاراً. لقد راوحت القصائد بين قصائد قصار وأخرى طويلة نسبياً. وفي كلا الحالين، ثمة تحقيق لرؤى جديدة .
الرموز ودلالاتها.. الانفتاح ووظيفته
يحاول الشاعر أن يُحقق موازنة في تناوله لرموز المطلق مثل (النهر ، الصحراء بدلالة الصبيّر ، الفضاء)  من أجل أن يُحقق بعداً  دلالياً في ما هو  يزمع التعبير عنه . كذلك يـُعين هذا برموز الخصب والنماء . كل هذا ينعكس بشكل متوالي كاشف لرؤى منفتحة على الرغبة في التغيير :
انعكافات نهرية ، داخل أزمنة مهرولة
فوق جسر الذهول
صبّير يفتح درباً
في صدر الفضاء
ليحلب أثداء متدلية
فالعلاقة بين أن تكون الأنهر منعكفة في سيرها، وهي رمز الانفتاح والعطاء وحصرها في ــ الانعكاف ــ وبين الأزمنة المهرولة . إذ نلحظ ثمة نوع من التوازي بين رمزين من الدلالة على حركة الزمن ، لعل الصبّير رمز مطلق كاشف لبيئة الصحراء يؤدي إلى انفتاح أمام مفردة ــ الفضاء ــ . في هذا مفارقة بنيوية . ولعل ما يعمق هذا هو فعل حلب الأثداء . وبهذا نرى أن مجموع هذه المفارقات في الرموز، يكشف عن وجهة نظر لها علاقة بما ينوي الشاعر ممارسته في تدوين صور الواقع . إن المفارقة تخلق نوعا ً من شكل الموقف الرؤيوي لما هو جار في الواقع .
في مقطع آخر نرى تأكيد على ما سبق ، ولكن على صورة أخرى . أي أن مجريات الواقع الذي هو جزء من ارشيف المدونة التاريخية المزمع انجازها تدور في فلك دائري يكرر نفسه :
كل ما هنالك
ضفاف من جبل مرمد
يلولب بأصابعه الحجرية  
محارّة خضراء .
لا محالة آتية تلك المسافة /الأنوثة
إذ نجد هنا اجتماع  عناصر المفارقة (مرمد ، الحجرية) مثلا ً. غير أن ذلك مرتبط برؤى كاشفة عن انفتاح على المستقبل، وذلك متحقق من خلال (خضراء ، الأنوثة) وهما دالان على الخصب والعطاء. بهذا الأسلوب يتعامل الشاعر مع اللغة. أي أنه لا يتركها مسايرة لسطح ثابت، بقدر ما يترك للمفردة فيها أن تـُعطي دلالاتها. فالتضاد في نظر الشاعر لا يعني الالغاء الذي يقود إلى العجز عن التحقيق . بل أنه يفتح الكوى من خلال المفردة الدالـّة . ولتأكيد هذه الصورة المتفائلة. يتواصل النص الشعري بدلالات مباشرة وغير مباشرة في مقطع آخر :
ثمة إيماءات
تصنع قفـّاز
البهجة
لكلمة خضراء ساقطة في حذر تام
تعانق وجه تفاحة الأفق
ونحتسي الحياة من
وجنة الشمس
في هذا المقطع ، نرى أن الشاعر يؤكد بإصرار على الصورة المنفتحة على الوجه الأبيض من الحياة . إذ تنعدم إزاء ذلك الصورة السوداوية التي قد تحجب رؤية الإنسان عن متحققات الرؤية النافذة. فالشاعر إنما يؤكد على ذلك بتواصل الإيماءات مع البهجة مثلا ً في حين يكشف عن متحقق آخر في احتساء نبض الحياة من وجه الشمس، يُضاف إلى ذلك ما يضمره رمز التفاحة  من دلالة في تكوين الوجود. هذه الرموز والعلامات تعمل في الشعر من خلال حركتها البنيوية المكوّنة للموقف والحس الإنساني .  
إن التعامل مع اللغة في قصائد (يوسف سعيد) تلتزم الحذر من الزيادة في التعبير الذي يذهب بالشعرية إلى منحى يطيل العبارة ولا يوجزها، وبهذا على حد قول (النفـّري) في اتساع الرؤيا وضيق العبارة. فالإيجاز سمة ايجابية تقود إلى التكثيف في طرح المعاني ، لذا نجد الشاعر يحاول أن يوحي من خلال عبارته الشعرية، من باب ايجاد سند دلالي للمفردة وهي ترتصف مع مثيلاتها في الدلالة وليس الخطية الحروفية. فما يريد التعبير عنه يأتي بصيغة الالتفاف عليه دون الإعلان عنه مباشرة . وبذلك يضعنا أمام صيغة ونسق يتطلب فهم المعنى عبر مكوّن لغوي بدلالة المفردة عن معنى مضمر.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة
عام

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

د. نادية هناوي جددت المدرسة الانجلو أمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات أو اتجاهات كعلوم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram